"فرانكفورت 2017": مشاهد من كوكب الكتاب

20 أكتوبر 2017
(من معرض فرانكفورت هذه السنة، قناة "أرتي")
+ الخط -

يبدو أن أشياء كثيرة تتغيّر في فرانكفورت حين يحلّ معرض الكتاب في الأسبوع الثاني من شهر تشرين الأول/ أكتوبر من كل عام. تشير التطبيقة الإلكترونية إلى أن التنقل من الضاحية التي أقمتُ فيها إلى المعرض في وسط المدينة، يحتاج إلى نصف ساعة، وأنه ينبغي تغيير وسيلة النقل، غير أن الرحلة دامت أقلّ من ربع ساعة، وتطلّبت استعمال قطار واحد.

ومنذ النزول في المحطة، توجّهك الشارات الضوئية والأعوان إلى سبيل يضعك مباشرة – على بعد خطوات قليلة – إلى داخل مبنى المعرض مع بعض التفتيشات الأمنية الخفيفة. بعد ذلك، ينبغي الإفاقة - بعد وقت طويل - من صدمة الألوان والصور واللغات والوجوه والأشكال والحروف المتناثرة في كل مكان.

كانت أولى القاعات التي تجوّلتُ فيها مخصّصة للناشرين الألمان. أهم ما يمكن التقاطه هو قدرات هذه اللغة على استقبال العالم، فالصالة الألمانية نجد فيها جميع الثقافات حاضرة، ونحن هنا لا نتحدّث عن لغة فرضت نفسها على بلاد كثيرة مثلما هو الحال بالنسبة للإنكليزية أو الفرنسية، بل نقف هنا بالأساس على جهد كتّابها ومترجميها وناشريها في التقاط آداب العالم وأفكاره.

ربما لولا هذه القدرة ما كان لـ"معرض فرانكفورت" أن يأخذ الموقع الذي يحتله اليوم، بالإضافة إلى أسباب تاريخية. وفي الحقيقة، فإن هذه العوامل ليست سوى مرتكزات لإرادة بإعادة إنتاج جاذبية المعرض كل عام، فالمعرض – كما تشير إحصائيات نُشرت في نهايته – حقّق في هذه الدورة تطوّراً في عدد المشاركين والفعاليات وعدد زوّاره مقارنة بدورات سابقة. وبالإضافة إلى ذلك، يصعب ألا نجد في فرانكفورت أي أمر يتعلّق بالكتاب إلا وقد خصّص له فضاء، هو في الآن نفسه مستقل بذاته ومتفاعل مع الفضاءات الأخرى.

بقية المعرض تبدو مثل نموذج معاصر من برج بابل، إذ تلتقط الأذن مئات اللغات وترى حروفها على الملصقات وأغلفة الكتب. حيال هذا التعدّد اللغوي، يصعب أن تكون متابعة المعرض خاضعة لمحتوى الكتب المقدّمة أو حتى لما تقوله عناوينها، إذ يتجاوز الكتاب هنا كونه حاملاً أو ناقلاً للمعاني والأفكار ليكون ثيمة يقدّم لها الناشرون والمفكرون والمصمّمون وخبراء التسويق والتكنولوجيا خدماتهم. وكزائر، غالباً سوف تشغلك الأضواء والألوان والتصميمات الغريبة والمبهرة للأجنحة وللكتب والملصقات، عن التقاط أي فكرة أو معنى مما تشاهده.

تتحوّل كل تلك العناصر من كتب ولافتات ووجوه وأحاديث وحلقات ونقاط بيع مواد استهلاكية إلى مجرّد علامات تتفاعل في ما بينها. هكذا يبدو المعرض تجسيداً لفكرة الـ"سيميوسفير" (كوكب العلامات) الذي يتحدّث عنه السيميولوجيون، والذي له خرائطه الخاصة ومناخاته وإيقاعاته.

في هذا الخضم، ثمة قاسم مشترك لا بد أن يلفت انتباه أي زائر؛ وهو أن الثنائي كتاب/تصميم لم يعد ممكناً فصلهما، فعنصر القوة الضارب للكتاب بات كامناً في هذا البعد التصميمي وفي لعبة شدّ الانتباه الأوّل وصناعة علاقات خفيّة مع القارئ منذ التقائهما. ويمتدّ التصميم في المعرض إلى الفضاءات التي تقدّم الكتاب، وقد أُنشئت معظمها لتحتضن حلقات نقاش وورش عمل على طول اليوم، هناك حيث تبرم عقود التعاون ويجري تبادل حقوق التأليف والترجمة، وتفتح أسواق أو تلمع أفكار جديدة.

هذا التفاعل النشيط بين جميع المتداخلين في صناعة الكتاب، وليس فقط مؤشّر الازدحام اليومي طوال الأيام الخمسة للمعرض، قد يشككانك في جميع تلك الأحاديث عن أزمات الكتاب والقراءة، فما الذي حدث كي تنقلب الأمور بهذا الشكل؟

ما لا ينساه الـ"فرانكفورتر بوخ ميسه" (هكذا يسمّيه الألمان) هو أن الكتاب مجال تقاطعات لانهائية، إنه مثل مغناطيس هائل يجذب كل مجالات الحياة؛ تحضر كتب النشريات الجامعية المتخصّصة، والمنشورات الطبية والفنية، والخرائط والروزنامات، وأجنحة خاصة بالمخطوطات وأخرى للكتب المستعملة والكتب التي تتجاوز أعمارها مئتي سنة، وكتب الأطفال التي نجد لها أجنحة تشعرك بالعبور من باب صغير إلى بلاد العجائب، وتتداخل النظريات والتخييل والكتب المصورّة ونجومها، بل حتى مطبوعات الإشهار لمواد استهلاكية، والدعاية السياسية.

وهنا سنجد انعكاس أحداث العالم على المعرض مثل توفير الكتالونيين مساحة كبيرة هذا العام لمنشوراتهم بعيداً عن الأماكن المخصّصة لدور النشر الإسبانية بما في ذلك من دلالات انفصالية، وتجد أن الناشرين الروس منسجمون مع حدث استقبال بلادهم لدورة كأس العالم لكرة القدم في الصيف المقبل على حساب الاحتفاء بمئوية الثورة البولشفية التي تجد حظّها في أجنحة دور نشر يسارية ألمانية.

لا مفر من الحديث عن الكتاب العربي، والذي هو بالضرورة حديث مُحزن. تباين السرعات لافت بحيث لا يجعلك لا تتردّد في القول بـ خمول الأجنحة العربية. ففي القاعة المخصّصة للناشرين الأجانب، سيؤسفك أن الزاوية التي وُضع فيها الممثلون العرب من أقلّ فضاءات المعرض حركية، وفي الغالب لا تحمل الرفوف سوى مجموعة كتب للعرض فقط، والعارضون يبدون مثل موظّفين ينتظرون نهاية الدوام، معظمهم لا يتحدّث الألمانية فهم منقطعون عن الجمهور؛ أهم محرّكات المعرض.

بالنسبة لعارف بمشهد النشر في البلاد العربية فالمقارنة ظالمة بين حقيقته (على نواقصها) وتمثيلها في فرانكفورت. فإذا كان واقع الكتاب العربي مؤلماً، فإن تمثيل واقعه في فرانكفورت أشدّ إيلاماً.

يجدر أن نلاحظ أيضاً أن جناح "اتحاد الناشرين العرب" من أصغر الأجنحة مساحة في المعرض، دعنا من تصميمه التقليدي الذي يغيب فيه الاجتهاد؛ طاولة ومجموعة كراسي ورفوف لا نعثر فيها سوى على قرابة عشرين عنواناً، وما يملأ بقية الفراغات مطبوعات لإحصائيات وورقات تعريفية عامة.

للمقارنة، قدّم الجناح اليوناني مطبوعة، في اليوم قبل الأخير، تضمّ قرابة مئة عنوان، جرى بيع حقوق ترجمتها خلال أيام المعرض، وقدّم الجناح الأرجنتيني للإعلاميين (وربما للناشرين والوكلاء الأدبيين) كتاباً من 368 صفحة تتضمّن منشورات 2017 وعناوين الناشرين وخصائص الكتب الورقية، أما الجناح البرازيلي فقدّم تقريراً عما سيصدر في 2018.

وبعيداً عن الأجنحة الرسمية، طبعت بعض دور النشر، في اليوم الأخير للمعرض، حصيلة اتفاقيات وحقوق نشر أبرمتها خلال أيام هذه التظاهرة. بعضها الآخر (دور نشر أميركية بالخصوص) قدّمت مطبوعة يومية بأنشطتها؛ في حين أن مجالاً إقليمياً مثل العالم العربي برمّته لم ينتج ورقة خلال أيام المعرض!

وعلى مستوى تنظيمي، ألم يكن أحرى أن يجري تجميع عدد كبير من الناشرين العرب في مساحة واحدة، كما فعلت كولومبيا أو إيرلندا، بالرغم من كونها بلداناً وليست أقاليم، فبذلك فقط يمكن أن تكون مرئية.
في مقابل ذلك، وللمفارقة، يشير المعرض إلى طلبٍ على ما هو عربي إسلامي، وهو ما يبرز في محاور الكثير من ندواته، كما يظهر ذلك في مبيعات الكتب الألمانية التي تعرّف بالجوانب التاريخية والسياسية للمنطقة العربية.

للمفارقة، تخبرني مسؤولة عن جناح دار نشر ألمانية متخصّصة في القواميس ثنائية اللغة أن القواميس العربية – الألمانية هي أوّل ما نفذ من خزائنها، وقد لاحظت أن المشترين ليسوا عرباً فقط، ما يشير إلى أن ثمة حركة تعلّم حديثة للعربية في ألمانيا. لكن المحزن في حديثها أنها قالت بأن مؤسستها سوف تتعامل مستقبلاً مع ناشرين فرنسيين من أجل مساعدة اللغة الألمانية في التفاعل مع العربية أكثر.

هذه الإشارات لا تزال تنتظر من يلتقطها، ولا يزال "فرانكفورت" فرصة متجددة كل عام للالتحام بعالم صناعة الكتاب وشبكاته والمصالح التي تديره. وإننا كثيراً ما نتساءل: لماذا لا يترجم أدبنا بما فيه الكفاية؟ وكيف لا يحظى مؤلفونا بالعالمية؟ وغير ذلك من الأسئلة كثير. بعض من الإجابة يوفّرها المعرض الألماني؛ نحن ببساطة غائبون عن المواقع التي تضيئها الشمس ويتحرّك فيها بقية الناس.

المساهمون