العودة إلى المأوى

27 مايو 2019
تمّام عزّام/ سورية
+ الخط -

يبدو أننا أخطأنا، وبحثنا عن مسوّغ مشروع يُحوّل الخطأ إلى إثم، وربما هذه الرؤية المختلفة والقاتمة، ساهمت بطريقة ما في إعادة عقارب الساعة باستمرار إلى الوراء، إلا أننا، أخيراً، حزمنا أمرنا وقرّرنا أن ننطلق... أن نعود إلى "حضن الوطن"!

لم أبتعد كثيراً عن المكان الذي وُلدت فيه، بل أحمله في كياني كما هو، مع أبنيته الواطئة ودروبه المُعَفّرة، وحقوله الساكنة إلا من طيف يأبى أن يزول: مقاومة الزمن! إرث غني بكل أصناف المودّة وانفعال الأناس البسطاء، حتى أمام دراجة صينية، أو حذاء صنعته أيد ماهرة في مكان ما من شبه الجزيرة الإيطالية. وكان هذا مدار حديثنا لساعات مع صديقي القادم من إسطنبول، عن طريق لاهور، نواكشوط، الخرطوم، عمّان وتبليسي في جورجيا، حيث سمحوا له باقتراض خمسة دولارات من سوري آخر ليشتري ما يسدّ به رمقه.

قصته البسيطة، التي استحوذت على اهتمام المنظمات الخيرية أيضاً، لا علاقة لها بالسياسة ولا بالحرب الدامية والوحشية في سورية. فمعظم السوريين الآن، بعد أن لاحظوا أنهم أصبحوا خارج اللعبة تماماً، بدأوا يبحثون عن أي شيء يمكن أن يعيد إليهم بعضاً من رونق الحياة التي افتقدوها خلال السنوات الماضية. وصديقي هذا ليس استثناء حتماً، إلا أنه بعكس الآخرين، ذهب أبعد مما يمكن أن يسمح له الخيال، ولم يعد يعرف كيف يعود أدراجه.

كانت البداية في إسطنبول، والنهاية أيضاً، إنما مع لمسة سحرية إضافية، أنقذته من حجز محتمل لعدة شهور أخرى في ذلك المطار، وألقت به بكل ثقله وخيباته وآماله في مطار برغامو القريب من ميلانو، ولاحقاً في مأوى جمعية خيرية تعنى باللاجئين والسجناء السابقين والمومسات اللاتي تم إنقاذهن من براثن جلاديهم وبدأن حياة جديدة قوامها التطريز والخياطة وتحضير الأطباق الإيطالية كمرحلة أولى وضرورية للاندماج في المجتمع.

بقي صديقي صامتاً طوال الشتاء، وبدأ يتكلم مع حلول الربيع، وهنا أكد أن لا علاقة له بربيعنا نحن، ربيع المأساة والشتات الذي تكوّن على مراحل، ولا يجمعه به سوى حنين افتراضي صوته هنا وتردّده في قلب بعيد ربما توقّف عن النبض منذ أمد، وهو ما جعله ينطق بتلك الكلمات القليلة التي طالما تمنّى أن يقولها أمام الملأ في يوم ما. الأمر ليس كما تظن - أجابني بعد فترة - عندما تنهار عليك الحرية بكل ثقلها، قلّما تستطيع الكلام، بل كل كلمة تنطقها تبدو وكأنها خرق لهذا الصمت المقدّس.

واحتمال الانشقاق عن الذاكرة، بدا في هذه الأثناء، كحلٍّ لا يمكن الاستهانة به، وربما أقصى ما يستطيع أن يناله المرء في مرحلة كهذه تتّسم بمثل هذه الضراوة، هو الالتفاف على الماضي، وابتكار حاضر يمكن أن يؤمّن لك مستقبلاً مضمونا بطريقة ما. لم تكن الطريق مرصوفة بالورود ولا محفوفة بالأشواك، وهو ما جعله يضحك خلسة ويقول بصوت عال: "فلنرَ من يستطيع أن يوقفني بعد الآن". كانت المسافة طويلة، إلا أن الزمن كان لصالحه، فأي ساعة هنا، لا يمكنها أن تقاس بدقيقة هناك، ويكفي أنني كنت أعد خطواتي في مساحة لا تسمح بالمشي أكثر من خطوتين!

ثم تتالت الانهيارات في البنية الهشّة لذلك الجسد المرهق من عبث الأيام، وبات النوم بسُتْرَة الحَجْرِ أمراً مفروغاً منه، ولم يكن أحد أقرب إلى الجنون منه، ولا أبعد منه في طروحات لا يعلم أسرارها إلّا هو وحفنة من رفاق الزنزانة الذين ينتظرونه الآن على الحاجز الخامس في الطريق ما بين دمشق ودوما، من دون أن يعرف ما إذا كان عليه أن يبدأ العدّ من هذه الجهة أو من الجهة المعاكسة، وهو ما أوقعه في إشكالية أخرى، أكثر تعقيداً وإيلاماً من كل ما سبقها.

في الدقائق الأخيرة التي لم تنطفئ جذوتها حتى الآن، أتى مسرعاً يسابق ظلّه وما بقي عالقاً في ذاكرته من هموم. قال بنفس اللهجة الطفولية التي استقبلني بها في ذلك الصباح المشرق من آذار: سأعود لأنني لم أعد أحتمل. هربت من المأوى في الليل، صبية إريترية وأخرى نيجيرية ساعدتاني في تخطي الجدار. يا لرائحة لحمهما التي تفوح بالآثام، وتلك الترانيم الحزينة التي حفظنها أثناء عبورهن البحر من أرض ليبيا إلى أرض النورمانديين.

أمضينا الوقت المستقطع بين رحلة الحياة والموت في مطعم صغير تديره عائلة من الجنوب. وكما لو أنهم خمّنوا ما يعتمل في صدورنا، قرأتْ أكبرهن سناً كَفّيْنا ونطقت خمسة حروف يمكنها أن تشكل كل الكلمات الهاربة من ذاكرتنا. فجأة خمدت شجاعته، وأبت تلك الدمعة إلّا أن تُفسح المجال أمام كل مناجاته المكبوتة.

المأوى أقرب من تلك الأرض، قال، ربما لأنني اعتدت على تلك الرائحة النقية، رائحة الإثم والغضب الذي يتفجّر من العيون. في النهاية، يبقى عهرهنّ أقل وطأة من عهر أولئك الذين ينتظرونني على بوابة الحدود. هيّا... رافقني، فأنا لا أستطيع أن أتسلّق سور المبنى بمفردي!


* كاتب سوري مقيم في إيطاليا

المساهمون