النص ومؤلّفاه

25 مارس 2019
حسن المسعودي/ العراق
+ الخط -

تكون النصوصُ الأدبية والفكرية - قبل ارتحالها لكي تُفرَّغ في ثقافة مُضيفة - مُمتلِكةً إيقاعَها الأصلي ونبرَتها وصوتَها وسُنَنها، بحُكم توافُرها على حياة خاصّة بها، تَكُون هي أساس تداولها بين ذويها من متكلِّميها، فإنْ كانت هذه المكوِّناتُ مُهمَلةً في عالَمها، فالمُفتَرَض أنها في حالِ كمونٍ وترقُّب لمُترِجم قد يكشف عنها، بإنعاشها ومدِّها بدماء جديدة عبر إفراغها في لغة وثقافة جديدتيْن عليها، فيضمَن لها بذلك، حسب فالتر بنيامين، الاستمرارية في الحياة.

ولحسن حظ النصوص أنها، دون باقي الكائنات الثقافية، تخترق الزمان والمكان والثقافات، لتجد ملاذاً لها في غير تربتها الأصلية، حيث يُمكن أن تُصادف عناية أكبر ورعاية أوفى، فتغدو حياتُها متعدِّدةً، أي حيواتٍ كثيرةً؛ تُحقّق بها الخلودَ لذاتها، وقَبل ذلك لمؤلِّفِها.

هكذا يُفيد المؤلِّف من خِدمة المترجِم، فتُطبِّق بذكره الآفاق، في حياته وبَعدَها، بظُهور اسمِه في أغلفة الكتُب التي تُرجِمتْ له، والتي تُصحَبُ عادةً بتعريف به، قد يرِدُ في ثنيّة الغلاف، أو في الغلاف الخلفيّ، مثلما يَحُلّ ضيفاً في ندوات، وفي برامج إعلامية ثقافية، وتُخصِّص له بعضُ المجلات عدداً أو مَحاور يكون فيها المُحتفى به أو مَدارَها. وقد يُصبح رمزاً من رموز الثقافة في وطنه لإسهامه في الترويج لبلده دولياً، فيُطلَق اسمُه على جوائز ومؤسَّسات ثقافية وتعليمية، وعلى بعض الساحات والشوارع، إلخ.

يتخطى الاهتمام بالمؤلِّف المجالات المذكورة ليحضر في المقرّرات الدراسية التي تُرسِّخ اسمَه في ذاكرة التلاميذ والطُّلاب، فيدرجون على ترديد اسمِه وبعض نصوصه أو أقواله أو مواقفه، وعلى تخيُّلِه في صورة لا تخلو من تقدير، خصوصاً عندما يُلزَمون بقراءة سيرتِه المقتضَبَة التي تُعرِّف به تحت عنوان ترجمة أو سيرة أو حياة المؤلِّف الكاتب، أو حين يُقرَّر كتابُه ضمن البرنامج الدراسي بالسلك الثانوي أو الجامعي، فيُصاب بعضُ الكُتّاب بالنَّفج أحياناً، لاعتقادهم بدُخولهم إلى العالَمية عبر كُتُبهم المترجَمة، والتي يعتقدون أنها فِعلاً كُتُبهم وحدَهم.

وأمام الهالة التي تُحيط بالمؤلِّف، لا يكونُ في وسع المترجم إلا أن يغبط الأخيرَ على حاله ومآله، نَظراً لِلحظوة التي ينْعَم بها، والتي يَرى آثارَها في غير قليل من الامتيازات، التي يكون مُعظَمُها معنويّاً، لأن المؤلِّف قد يعيش حياةَ ضنك حقيقيّ، في مقابل حياة المترجِم، التي قد تكون أخفّ وأيْسَر، بسبب أن أغلب مُترجِمي الأدب والفكر يعيشون بالأساس من وظيفة أو من موارد أخرى، وأن الترجمة تكون تكميلية لديهم، وأنهم قد يُكافأون على ترجَمتهم بأكثر ممّا ينالُه مؤلِّف العملِ نفسه.

وعلى الرغم من اعتقادِ بعض المؤلَّفين - بدعم معنويّ من بعض المنظّرين مثلاً - بأن موقع المترجِم ثانوي، لأنه لولا وجود النّص الأصلِ ما وُجِدَ الفرْعُ، لاستمداد الثاني وجودَه من الأول، حسب بنيامين، فإن المترجِمَ لا يتردَّدُ، مُسْتقوِياً بالتنظير الترجميّ أيضاً، في الإصرار على أنه مؤلِّف هو الآخر، وفي رفض أيّ تبخيس لعمله، لأنه يقرأ النص ويؤوِّله ويُعيدُ كتابتَهُ نصّاً آخَرَ، في استقلال تام عن أيّ وصاية أو خنوع للمؤلِّف، ولذلك فهو دون ريْبٍ مؤلِّف ترجمته على الأقلّ، ولاقتناعه بأن وجودَ المؤلِّف في غير لغته الأمّ يعود الفضل فيه إليه؛ هو المترجم العليم بأعراف الضيافة النّصية. إذن، لا غرابة في أنْ يذهب بعض نقاد الترجمة إلى أن كل مترجِم يصنع للمؤلِّف الذي يُترجِمُه صورةً غير التي تكون للمؤلِّف في لغته.

وعلى الرغم من شدّ الحبال بين الطرفيْن، فالطريف في الأمر هو أن بعض المترجِمين المرموقين يرتبط اسمُهم بمؤلِّف بعينه، إذ نعرف، مثلاً، أنّ المهدي أخريف قد اقترن بالبرتغالي فرناندو بيسوا، وأحمد الصمعي بالإيطالي أُمبرتو إيكو وإبراهيم الخطيب بالإسباني خوان غويتيسولو، ليؤكّدوا الوصف الذي قاله الفرنسي فَالِيرِي لاْرْبُو في شأن العلاقة بين الاثنين حين اعتبرها "بالفعل رواية حُبّ حقيقيّة".

المساهمون