لك يا منازل

01 سبتمبر 2017
عمرانوفي/ سورية
+ الخط -

هذا هو مطلع لامية المتنبي الشهيرة، وفيه شيء من كل إنسان اضطر بطريقة ما إلى هجرة بيته، في حين يبقى البيت في الذاكرة، كما يتابع النشيد هكذا: "لك يا منازل في القلوب منازل/ أقفرتِ أنتِ وهنّ منك أواهلُ". وبعيداً عما إذا كان التفجّع طَللياً هنا، أي إذا كان ينتمي إلى التقاليد الشعرية، أم لا، فإن المعاني المخزنة فيه، تشير إلى فقد المكان وخسارته.

ويبدو أن تاريخ الفراق بين الأمكنة والبشر لا يزال مستمراً، منذ ذلك التاريخ - وقبله أيضاً ـ وقد تدخلت فيه على الدوام عناصر خارجية مدمرة على الأغلب، إذ عملت الغزوات والحروب وسياسات التهجير على قطع تلك العلاقة، بإخراج البشر من أمكنتهم، أو إبادتهم، أو تحطيم تلك الأمكنة.

وبين المكان الشعري والروائي، والمكان الواقعي مشكلة سورية تتفاقم بلا توقف. فإذا ما كان المكان الروائي مرتبطاً بالجوانب المحلية في القصة والرواية، أي كان شكلاً لوجود الشخصيات، فإن المكان الواقعي الذي هو أساس لبنية المكان الروائي ـ بصرف النظر عن المقترحات الخيالية التي يمكن أن يضيفها الروائي عليه ـ تعرَّض، وما زال يتعرض، خلال السنوات الست الماضية لزلزال من التغيرات، والتبدلات، التي حطمت هويته.

وهناك من يتهم السوريين بوهن العلاقة بينهم وبين الأمكنة (ويبدي هنا بعض "المثقفين" غير السوريين "مهارة" مخزية تفتقر للحسّ الأخلاقي، حين يستخدمون النتيجة، ويتجاهلون السبب، في شتم المهاجرين السوريين الذين تركوا بيوتهم)، وهي تهمة جائرة، حين يتغاضى المتهمون عن القنابل، كي يتمكنوا من إدانة البشر الذين فرّوا من الموت في الحقيقة.

وفيما توضع على طاولات المقاولين، ومهندسي إعادة البناء، وأبناء أسواق المال موضوعة إعادة المكان الواقعي السوري، فإننا لا نعرف بعد ما الطابع الهوياتي الذي سيضيفونه على المدن السورية. وثمة احتمال أن تكون الأفكار متجهة لتغيير الطابع المعماري لتلك الأمكنة، وبناء هوية أخرى بديلة لا تشبه المكان، والمريع أن يفرض المقاول الأجنبي هندسته.

وهو خطر يهدد الوجود السوري برمته. وإذا ما كان هذا الأمر يشكل قضية إنسانية في المقام الأول، وبعيداً عما إذا كان العالم يحفل بعودة البشر إلى ديارهم أم لا، فالأمر سيكون معضلة إنسانية وبيئية وتقنية أمام الرواية السورية القادمة. ولن يكون بوسع الروائيين أن يعثروا على الأمكنة التي ابتدأت فيها حياة الشخصيات.

لقد اقتلع أكثر من عشرة ملايين إنسان من بيوتهم وبساتينهم وقراهم ومدنهم وحاراتهم وشوارعهم، وصاروا بلا مكان. ولم تعد حارات حمص موجودة، ومضى حي جوبر الدمشقي إلى الماضي، وليس لدى القابون غير اسمه. فيما مضت السوق القديمة في حلب إلى التاريخ، ولا سبيل لعودتها في المستقبل.

أما العالم الذي تورّط في صنع هذه الكارثة، وأغمض عينيه عن ترحيل الجماعات، وتدمير الأمكنة، ثم راح يحاول أن يتنصل منها بالتجاهل واللامبالاة، فإنه سيفتح شدقيه كي يبني بديلاً "عصرياً" عن ذلك الماضي الذي دمّر تماماً. وعندها سيكون البحث عن المكان المفقود مهمة غالية قد لا تكون بمتناول أحد.

المساهمون