روح أرهقها التداول.. محاولة في إنقاذ كلمة

19 مارس 2019
(مقطع من لوحة "شجرة الحياة" لـ سيرافين لويس، 1928)
+ الخط -

كان جمال الدين بن الشيخ يقول لنا دائماً: "اصنعوا باباً لكلّ كلمة تمرّ عليكم في أبحاثكم، لأنه سيأتي اليوم الذي تكونون قد أنجزتم فيه معجماً خاصاً للغة".

ذلك أن للحروف والكلمات أهمية وحياة، ليس فقط لكونها مفاهيم، بل لها فرادتها من خلال شكلها، وشكل حروفها، ووقعها في اللفظ والسمع، وموضعها في الجملة واختلاف استعمالها على مدى القرون، وعلى حسب البلدان والمناطق. للكلمة تاريخها الخاص، متحوّل ومتحرّك، يدور أساساً في اللغة العربية حول مصدر الكلمة وتفرّعاته، على عكس اللغات اللاتينية، التي يؤرَّخ للكلمة فيها حسب الاستعمال فقط.

لنسافر قليلاً مع كلمة "روح" التي لها تاريخ عريق، أخفاه عن الذاكرة تداول ممتهن ومبتذل، خاصة في الشعر الرومانسي المعاصر، وأغاني الحب البخسة، التي ضيّقت الخناق على اللفظة وحصرتها في معنى أحادي، منغلق.

فشتّان بين قول المجنون:
تعلَّق روحي روحَها قبل خَلْقِنا وَمِنْ بَعْدِ ما كنّا نِطافاً وفي المهد
و"أشعار" لن نذكرها هنا.

كلمة روح تَفِدُ من ريح، وتنبثقُ منها أشكالٌ عدة تنتمي إلى جَذر واحد، أو مصدر واحد. تأخذ هذه الأشكال معاني متنوعة تتصل في ما بينها من خلال نَفَسٍ خفيف. وإذا انتبهنا، نحسّ فعلاً نفساً خفيفاً يأتي من الأعماق ليغادر الفم في اللحظة نفسها التي نلفظ كلمة روح، بخفّة توازي معانيها المتعددة.

مصدر "ر.و.ح" الثلاثي، أو "ر. ح" الثنائي، كما هو وارد في "معجم مقاييس اللغة" لابن فارس، تتألّف منه حصيلة المعاني ويدعم تفرّعات الكلمات واشتقاقاتها. الريح تتأتّى من رَوح الله الذي هو رحمَتُهُ. الريح مُرادِف أيضاً للقوة والقدرة. قوة الحياة وقدرة الموت والفناء. أو زرع الروح وانتزاعها من الجسد. والذي يَميلُ مع كلِّ ريح، شخص حائر من أمره، متذبذِب يتقلُّبُ مع تَقلُّبِ الظروف، ليست لديه وجهة في تدبير أموره. الشجرة مِروَحَة تهزّها الريحُ حتى تتساقطَ أوراقُها، أوراق هزلت وآن سقوطها، فتكون عملية تجديد روح الشجرة بمساعدة الريح. راح وتروَّح، كلمتان تُشيران إلى الشجرة المورقَة، تتهيأ قبلَ أن يحينَ موعدُ الأمطار. ومطرُ المساء رَوائح.

رَواحٌ هو المساء. والرّواح يعني السّير كيفما اتّفِق. إنّه حركةُ الحياة. الأرضُ المنبسطةُ تسمّى راحة. المروحة مكان تخترقُه الريحُ من كلِّ جانب، فتخلق حركة للرياح تشبهها آلاتنا الحديثة التي تعمّم نسمة باردة في البيوت أيام الحر. والمِروَحة التي تجرُّها باليد، تَشي بإيقاع يدفع إلى الرقص ويطرّي الوجهَ. يُطَيِّرُ الضفائر. وقد كان يصنع من الجريد ويحرّكه خادمان يقفان عند مدخل المجلس، وتكاد تكون عملية التمايل هذه كمدٍّ وجزر، في توازن رتيب، يعد الوقت كعقارب الساعة.

الراحةُ صحنُ الدار، مكانٌ مفتوحٌ على الهواء يحلو فيه الاسترخاء، وراحةُ اليدِ حيثُ تَرتسمُ خطوط الحياة. وأريَحيٌّ هوَ الرجلُ الكريم، المتسامحُ، الجَزيلُ العَطايا. والأنثى كذلك...

الرَّوح نسمةٌ عذبة، وسعادة تعمّ القلب، فيصير مطمئنّاً، آمناً. الراحة والرواحة، هي الراحة التي تعقب الحزنَ والغمّ وتحقن في الإنسان الحياة من جديد. الرَّيحان، كلُّ نبتةٍ أو زهرةٍ عَطِرَة، وهي منذورةٌ لكلِّ كائنٍ يساعدُها على البقاء. ومنها سُمي العطر في بعض البلدان، ريحة، على الرغم من أن كلمة رائحة لا تحدّد نوع "الريح" المنبثقة منها. والمروَّح، المرهَم المعطَّر الذي يمنحُ نفسه عَبرَ نفحةٍ خفيّة عبقة.

الروح عند العرب يَعني فعلَ النَّفخ. وهو يُدعى هكذا لأنّه "ريح" تصدرُ عن الرّوح. فيذهب بنا هذا التفسير عند العرب، إلى قصة مريم العذراء التي "نفخنا فيها من روحنا"، لنعود إلى مدار السرّ الإلهي واستفراده بالقدرة على هبة الروح، الحياة، بطريقة مباشرة، لا تخضع لأي منطق إنساني.

والراحةُ في اللغة هي الزوجةُ، المرأةُ، لأنَّ الرجلَ بقُربها يستَكين. فتخطر بالبال الآية "وخلقنا لكم من أنفسكم أزواجاً لتسكنوا إليها".

في اللسان المغربي، مثلاً، نقول "الرواح" هي ليلة ما يسمونه في مصر مثلا "الدخلة". و"راح بها" أو "روحها" أو "راحت"، أن الزوج أخرجها من حال الطفلة إلى حال امرأة بدأت تستعد رحمها لاستقبال وإعطاء الحياة. واستروَحَ الذكر، حين تنتابه الرغبة ويتنشق حضور الأنثى، والرجل أيضاً حين يشتاق للزوجة، والعكس صحيح، على الأقل حسب مفهومنا.

الروحانيُّ، عند العرب، هو كلُّ من أو ما يملكُ روحاً، بشراً، جِنّاً وحيواناتٍ. ويكنى بها الملائكة والكائنات التي لا شكل لها جسدياً، الكائنات الشفافة التي يتعذر التقاطها. و"الروحاني" بلغة المغرب هو الطفل أو الشخص "الشقي"، "المراوغ" أو "المغامر".

و"الراح"، الخمر ينقل الذات والعقل من حالة بصيرة وانتظام وتحكّم، إلى حالة شبه انفصال عن الجسد وخفّة وهيمان في عوالم أخرى، ربما ينتج منها خلق شيء بديع في حالات قليلة، أو يمكن أن تخلف كوارث، تكتشف بعد الصحو. ولذا كان يقول العرب أو أبو نواس...ما صار في الليل يطويه النهار كطيّ البساط.

كما أن كلمة روح، لها حضور قوي في عملية الحياة بل وهي أساسها حتى في كلامنا اليومي "لم أصل إلى كذا مكان حتى طلعت روحي"، "أو مشت تزهق لي روحي في الحمام من الحر". فهي أيضاً تستعمل في الاستنجاد "أعتقوا الروح"، فيصير الشخص المستنجد "روحاً" فقط، لا اسم ولا هُوية له. وأخيراً، "الروح" هي سيدة معجم الحب عند العرب، وفي سائر البلدان ومختلف الألسن، "روحي فيه"، "هو أو هي الروح التي تطلع فيّ وتنزل"، "هي أو هو الروح ديالي أو روحي"، أو "هي أو هو توأم الروح منّي".

وفي قصائد العشاق الشهيرة، الروح نقطة من نقط الحب المركزية عند العاشق. كما عند ابن الرومي في أبيات يعتبرها أبوهلال العسكري في ديوان المعاني من أجمل ما قيل في الحب:
أعانقها والنفس بعد مشوقةٌ إليها وهل بعد العناق تداني
وألثم فاها كي تزول صبابتي فيشتدّ ما ألقى من الهيمان
ولم يكن مقدار الذي بي من الجوى ليَشفيه ما ترشف الشفتان
كأنَّ فؤادي ليس يشفي غليله سوى أن يرى الروحين يمتزجان
ولكن تلك قصة أخرى.


* شاعرة وروائية مغربية

المساهمون