إحياء القاهرة الخديوية.. سجالات الترميم والتدمير

03 مايو 2017
"ميدان طلعت حرب" في "القاهرة الخديوية"
+ الخط -

في ظل تدمير وهدم معظم المباني القديمة في مختلف المحافظات المصرية، تتضاعف قيمة وأهمية القاهرة الخديوية كشاهد أخير على مرحلة مهمة من تاريخ مصر الحديث.

في هذا السياق عقدت "المؤسسة الثقافية المصرية الإيطالية" بالتعاون مع "مكتبة الإسكندرية" ندوة بعنوان "إحياء القاهرة الخديوية بين نجاح التجربة وتحديات تكرارها"، تحدثت فيها سهير حواس أستاذة العمارة والتصميم العمراني بقسم الهندسة المعمارية بجامعة القاهرة (هي أيضاً عضو مجلس إدارة "الجهاز القومي للتنسيق الحضاري" ومستشار محافظ القاهرة لمشروع "إعادة الوجه الحضاري للقاهرة الخديوية").

تأتي هذه الندوة في إطار محاولات مؤسسات المجتمع المدني في محافظة الإسكندرية، لوقف طوفان هدم المباني القديمة والتراثية، الذي يجتاح المدينة خصوصاً في الخمسة عشر عاماً الماضية، ونتج عنه تغيّر للطابع العمراني والمعماري لأحياء كاملة، تحولت في خلال سنوات قليلة إلى غابة إسمنتية من المباني القبيحة، ولم يعد متبقياً من الإسكندرية القديمة سوى عشرات المباني في المنطقة الواقعة بين ميدان "محمد علي" في منطقة المنشية وميدان "سعد زغلول" في محطة الرمل، بالإضافة لبعض القصور المتناثرة في مناطق مختلفة بالإسكندرية.


القاهرة الخديوية
بعد ضغط كبير ومتواصل من مؤسسات المجتمع المدني والهيئات العاملة في مجال الحفاظ على التراث داخل مصر وخارجها، تبنت الحكومة المصرية مؤخرًا مجموعة من المشروعات للحفاظ على هذا التراث المعماري، من أبرزها مشروع "إعادة الوجه الحضاري للقاهرة الخديوية" الذي انطلق منذ ثلاث سنوات بهدف الحفاظ على منطقة وسط القاهرة المبنية على الطراز الأوروبي والتي يعود تاريخها لنهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين.

عن هذه التجربة تقول سهير حواس: "مدينة القاهرة تتميز بطبقتها التاريخية المتعددة، فهناك مناطق تحتوي على آثار فرعونية، ومناطق آخرى شُيدت على الطراز الإسلامي كالقاهرة الفاطمية، ومناطق مبنية على الطراز الأوروبي مثل منطقة القاهرة الخديوية، التي شُيدت لتكون باريس الشرق".

وتضيف: "أخطر شيء أن تملك ثروة وأنت لا تعرف قيمتها، والمباني التراثية ثروة كبيرة فهي تحافظ على ذاكرة وتاريخ المجتمعات الإنسانية، ولكي ندرك قيمتها علينا فقط أن نتخيل، أننا استقيظنا يومًا ونحن فاقدو الذاكرة، لا نعرف من نحن ولا المجتمع الذي نعيش فيه، ستصبح حينها الحياة بلا قيمة".

وأشارت حواس إلى أن هناك تحديات كثيرة واجهتها خلال عملها في المشروع بدءًا من غياب ثقافة القيمة التراثية، وأهمية الحفاظ عليها، مرورًا بسعى معظم أصحاب العقارات التراثية لهدمها وإعادة بنائها لتحقيق مكسب مادي ضخم، وصولًا للموظفين في إدارة الأحياء الذين من المفترض أن يحافظوا على هذه المباني، ولكنهم لا يعرفون قيمتها وغير مقتنعين بجدوى ترميمها أو تطويرها.

من المفارقات في مشروع إحياء القاهرة الخديوية أنه عقب الانتهاء من ترميم ورفع الإشغالات واليافطات التي تشوه المباني وتجريم أي تعديات عليها؛ كان أول مبنى يفسد ما تم إصلاحه، هو مبنى محافظة القاهرة القديم، الواقع في ميدان عابدين حيث قام أحد كبار المسؤولين بتكسير جزء من واجهة المبنى ووضع جهاز "ستالايت" طبق معدني لاستقبال القنوات الفضائية.


تفريغ المدينة
رغم النجاحات الظاهرية التي حققها مشروع إحياء القاهرة الخديوية حيث رممت مجموعة من المباني بالإضافة لفتح الأرصفة للمشاة بعد أن كانت محتلة من الباعة وأصحاب المحلات التجارية، إلا أن هناك العديد من الانتقادات وجهت للمشروع من أبرزها أنه يكتفي بترميم المباني ولا يهتم بتطوير وتحسين أوضاع سكان ورواد القاهرة الخديوية، بالإضافة إلى أنه يعمل على تفريغ وسط البلد من سكانه وتطويره بحيث يصبح حكرًا على الأغنياء كما كانت حين تم إنشاؤها.

هذه الانتقادات تطرح تساؤلًا جوهريًا وتخوفات كبيرة حول مستقبل وسط القاهرة وما سوف تكون عليه في السنوات القادمة خاصة في ظل ما تقوم به شركة الإسماعيلية للاستثمار العقاري التي تمتلك أكثر من 20 مبنى في وسط القاهرة وتسعى للاستحواذ على المزيد، من تغيير نشاطات العديد من المباني، بالإضافة إلى هدمها مباني أخرى مثل مبنى "التاون هوس"، ومحاولة الشركة فرض نمط ثقافي جديد على وسط القاهرة عبر مهرجان "دي كاف" للفنون المعاصرة الموجّه لشريحة محددة من الجمهور معظمها من الأجانب والطبقات العليا.

لكن على الجانب الآخر، هناك آراء تدعم هذه المشروعات رغم ما بها من إشكاليات، مؤكدين على كون قوة الهدم والتدمير التي تجتاح مصر أقوى بكثير من المؤسسات الثقافية والتنموية وبالتالي إذا كان هناك جهات أخرى رأسمالية أو أيا كانت يمكنها أن تواجه قوى الهدم والتدمير فهذه خطوة جيدة لأنها ستحافظ على التراث المعماري.

لكن يبقى السؤال المطروح: ما قيمة التراث المعماري إذا فقدنا الإنسان ذاته؟ فضلًا عن كون هذه الشركات حتى إذا حافظت على التراث المعماري وهو أمر محل شك، فهي في النهاية ستقوم بطمس مراحل تاريخية مهمة لطبقات عديدة عاشت في هذه الأحياء، وترويج سردية أحادية عن المدينة.


تفكيك كوزموبوليتانية الإسكندرية
في الإسكندرية كل شىء مهدد، فالجهات التنفيذية لا تسعى لحماية المباني التراثية ولا لتطوريها، بل تعمل على تسهيل الاستيلاء عليها وهدمها، نظير الحصول على رشاوى كبيرة. ويظهر نفوذ آلة الهدم في الإسكندرية في مصير فيلا " أيجون" من تصميم المعماري الفرنسي أوغست بيريه، والتي رغم حدوث ضجة إعلامية كبيرة حولها منذ عامين، ووعود المحافظ في حينها بأن الفيلا لن تُهدم، إلا أنها هُدمت العام الماضي، مثلما حدث مع مئات المباني والقصور القديمة.

في هذا السياق ومع انتقال الحديث عن القاهرة الخديوية لتناول المباني التراثية في الإسكندرية، تم استدعاء صورة وأسطورة الإسكندرية الكوزموبوليتانية ، مع دعوات عنصرية أطلقها أحد الأساتذة الجامعيين الجالس في الصفوف الأولى من مقاعد الجمهور، بضرورة تطهير الإسكندرية من الرعاع والمجرمين والجهلة الذين يفسدون المدينة ويدمرونها.

هنا تحولت القاعة لحالة من السجال والجدل والصياح المتبادل خاصة أن هذا الأستاذ الجامعي أطلق حديثه بشكل مفاجئ دون أن يطلب مداخلة، فقام أشخاص آخرون من الجمهور بالرد عليه رافضين هذا الخطاب ومحاولين تفكيك أسطورة الإسكندرية الكوزموبوليتانية التي كانت حكرًا أيضًا على الطبقات العليا من الأجانب الذين حصلوا على امتيازات كبيرة من سلطة الاحتلال البريطاني وكانوا يحتقروا المصريين ويعتبرون الإسكندرية ملكًا لهم وحدهم، واستطاعوا فرض رؤيتهم الأحادية لتاريخ الإسكندرية وترويجها باعتبارها السردية المثالية والوحيدة المعبرة عن روح المدينة.

دلالات
المساهمون