يغرق المتابعون للمشهد الثقافي الأردني في تعداد الجوائز الني نالها كتّاب وفنانون، في سياق نشر جرداتهم لعام مضى، أو أسماء الراحلين واستذكار محاسنهم التي ربما لم تُغرِ أحداً للكتابة عنهم حين كانوا على قيد الحياة، أو الوقوف عند أحدث الإصدارات هنا وهناك.
ويظلّ الموضوع الأساسي غائباً، والذي يتحاشى معظم "الفاعلين" الثقافيين طرحه للنقاش منذ عقود طويلة، رغم أن حاجته تتعاظم يوماً بعد يوم، ويتمثّل في مفردة واحدة يبدو أنها لا تثير المشتغلين في الإبداع والفكر، وهي "التغيير" وأسئلته المتعدّدة في لحظة تاريخية تشهد انسداد الأفق السياسي في كلّ الاتجاهات، وأزمة معيشية تتفاقم مع فشل خطط التنمية طوال عقود، مع انهيار قيمي لا بد من تأملّه خارج منطق التطهّر والتعفّف.
وبالضرورة، فإن التفكّر بهموم الواقع ليس على طريقة تدبيج البيانات التي اعتادت عليها الأحزاب في العالم العربي، والأردن منه، لأكثر من سبعين عاماً، أو بكتابة تعليق أو عمود في إحدى الصحف والمواقع الإلكترونية المحليّة تعقيباً على حادثة عابرة، إنما هي بالاشتباك كتابة وبحثاً وإبداعاً مع كلّ هذا الخراب الذي يحيط بنا، والذي عجزت عن إصلاحه حكومات وخطط ثلاثية وخَمسية وعَشرية، ولم يخطر لأهل الثقافة إلى اليوم تقديم أفكارهم أو حتى أحلامهم في التغيير.
ربما سيتذرّع كثير منهم بأن تلك مسألة يشترك فيها المثقفون في جميع أرجاء العالم العربي، وقد يكون ذلك صحيحاً إلى حد بعيد، لكن ذلك لا يمنع من اختراق السائد وطرح الأسئلة الحرجة عن العيش بجوار عدوٍ يكرّر النظام الأردني، لا غيره، بفشل عملية التفاوض والسلام معه منذ ربع قرن، وكذلك حول علاقة المواطن بالسُّلطة والديمقراطية والحكم الرشيد، والمشاركة بوضع تصوّرات مستقبلية لقضايا التعليم والاقتصاد والإعلام والتشريع وغيرها، وتحديث مجتمعاتهم والدفاع عن الحريات العامة والشخصية، وحقوق أفراده في حياة أفضل.
وإذا افترضنا جدلاً أن هذه مسائل لا تخصّ أصحاب الفكر والإبداع، فإن مصالحهم واحتياجاتهم لا بدّ أن تشكل أولوية لديهم، إلا أن ذلك لا يتحقّق أيضاً مع غيابهم عن التفكير والعمل نحو منظومة حداثوية ومستقلة من خلال حراك مدني يغيّر بنية المؤسسات البالية، وعلى رأسها وزارة الثقافة، بحيث تأخذ دورها المناط لها دستورياً وقانونياً كراعٍ للنشاط الثقافي وليس منتجاً أو منظّماً أو متدخلاً في شؤونه؛ لكن هؤلاء يكتفون بالتظلّم والتشكّي كلما لم ينل أحدهم حصته من "الكعكة".
لا نشهد يافطة تُرفع لإصلاح الثقافة الأردنية، أو إنقاذها، ولا جهداً ونضالاً حقيقيين لتغيير حال الثقافة فقط، بدلاً من استمرار سياسات التنفيع وتوزيع الإكراميات من دون فرز للغثّ والسمين، بل ليس مبالغاً فيه القول إن الذائقة المتواضعة لأغلب موظفي الوزارة، تضاف إليها الشللية والمحسوبيات، هي المسؤول الأول عن ترسيخ الرداءة في قطاعات مختلفة.
ولا يفيد هؤلاء الموظفين، والذين يدّعي كثير منهم ريادته كـ"مبدع" بدليل دعم الوزارة لنتاجاته، مواصلة الترديد أن "الثقافة" هي الأقل فساداً وهدراً من بين الوزارات، أو أنها لا تطبّع مع الكيان الصهيوني، حيث إن خلاصة عمل أكثر من أربعة عقود، يمكن تلخيصها بالقول إن نحو ألف "مبدع" يقدّمون أعمالهم لألف أو ألفين ينتظرون اعترافاً مستقبلياً بهم كـ"مبدعين" من قبل الوزارة ذاتها ومسؤوليها.
ولأن هزيمة الأمم مبتدؤها ومنتهاها في الوعي، فإنه يمكن رصد تجليات هذه المقولة في أي موضوع يتمّ بحثه، ومن ذلك الاحتفاء بالشاعر أمجد ناصر (1955 – 2019)، إثر إصابته بالسرطان الذي تسبّب في رحيله مطلع نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي، حيث انتشرت كتابات إنشائية مشبعة بالعاطفة على وسائط التواصل الاجتماعي – باستثناء نصّين أو ثلاثة –، وبالمثل ذهبت المؤسستان الرسميتان الأردنية والفلسطينية إلى منحه الجوائز والأوسمة والتكريمات.
لم يتجاوز المحتفون كليشيهات محدّدة مثل الكاتب الفلسطيني من أصل أردني، والشاعر الأردني الذي حاز مكانة عربية، أو الكاتب المتعدّد الإبداعات الذي تنقّل بين الشعر والرواية وأدب الرحلة والمقال، دون أن يسائلوا أنفسهم لماذا لم يقرأوا أياً من تجاربه قبل مرضه ثم رحيله، وغالباً فإنهم لن يفعلوها لاحقاً، وسيظلّ صاحب "أثر العابر" بلا نقد حقيقي لمجمل كتاباته.
وتركّزت انشغالات العام المنصرم، كما الأعوام التي سبقته، على الجوائز العربية التي استطاع الكتّاب الأردنيون تثبيت حصتهم على خرائطها لأسباب مختلفة، وباتوا مطمئنين لهذا الالتفات "المتأخر" إليهم، والذي دفع بعض من فازوا بها إلى تمييز أنفسهم عن الأوساط الثقافية بكونهم يمتلكون "أفضلية" على أقرانهم، يشير إليها التحوّل في سلوكياتهم على وسائط التواصل الاجتماعي أو في "الصالونات" الثقافية.
وبالوتيرة ذاتها، استمرت حفلات التوقيع لإصدارات الكتّاب الجديدة التي يتمّ تبادل المجاملات خلالها في ظلّ التضخّم المتسارع في أعداد الكتّاب الذين تجاوزوا الألف وخمسمئة منذ عدّة سنوات في بلد لا يصل عدد سكانه إلى سبعة ملايين، وكذلك مهرجانات المسرح التي تقدّم أعمالاً لروّادها ولا تخرج أبعد من أروقتها، إلى جانب المهرجانات الموسمية في جرش والفحيص والأزرق وغيرها التي لا تلتفت برامجها بعد عقود على تأسيسها إلى الفنون المعاصرة، في إصرار على فعاليات تقليدية في الشعر والغناء والموسيقى والمسرح وغيرها.
ربما يحدث ذلك في معظم البلدان العربية ولا يقتصر على الأردن فقط، حيث الثقافة مجرّد زينة أو كرنفال وآخر همّها أن تمثّل اجتهاداً لتقديم الإجابات عن المآزق المحيّرة التي تواجه المجتمعات البشرية، ما يستدعي عند نهاية كلّ عام الدق على جدران الخزان.