النفخ في أرواح تائهة

17 فبراير 2016
أياد القاضي/ العراق
+ الخط -

ظاهرة احتفاء لافتة في يوميات المهجر العربي في البلدان الأوروبية كلّما نطق مواطن من أصول شرقية بما تطرب له أذن الباحث عن صورة نمطية عن "الآخر المسحوق بثقافته وتربيته وحضارته".

شاءت الأقدار، ذات يوم، أن ذهبَت الناشطة النسوية الصومالية إيان هيرسي علي إلى هولندا، فتحوّلت هناك إلى "خبيرة" عن "ذلك الشرق السرّي"، المغتصِب لإرادة الإنسان. تُحدّثهم عن اللوحة التي سيجد فيها المخرج الهولندي ثيو فان كوخ فاتنته، وينجز هو بالتالي فيلماً استناداً إلى ما روتْهُ علي. هكذا، وبهذه البساطة، يقع تبنّي الشهادات التي تُطرب المزيد من تلك السطحية.

صعود صاروخي حقّقته المرأة، قذف بها إلى الولايات المتحدة الأميركية. وهناك، جرى النفخ من جديد في مقولاتها، التي تبيّن، حتّى للمبتدئين، بُعدُها الاستهلاكي المسطّح؛ ما أودى بالناشطة إلى الانكفاء وتبخّر ظاهرتها بعد فترة وجيزة.

الظاهرة ليست جديدة، هي قديمة قدم التباس العلاقة بين شرق وغرب في محاولة الحوار بين بشر متساوين، لا حوار الأسياد والتابعين في مركزية معقدة لـ "أوربة" الوجود، عبر تماهٍ يسلخ حتى لون البشرة، على طريقة مايكل جاكسون وإعلانات مصبغات تجد أسواقها عندنا؛ لنصبح مثلهم، ببشرة بيضاء وعدسات لاصقة بألوان باهتة.

أي تشويه هذا الذي يجرّ جيلاً تائهاً في مركزية أوروبية تدعو إلى التشبّه بما يقال فيها، وهي التي تنسى أصل حكاية هؤلاء مع الظلم، لتفرش السجاد الأحمر لديكتاتوريات بلدانهم في نفس الغرب الذي يذمّ أصولهم ويدعوهم لفعل ذلك.

إنها حكاية أخرى من حكايات الفصام الممنوع تصويرُه أو تجسيده، لكي لا تفوح منه رائحة منفّرة تُسمّى "ثقافة" تنتمي إلى العولمة تارة، والمدنية وما فوق القومية، أو أممية تارات أخرى. وهي عند المنعطف الأول لمحكّ صحّتها، تفوح منها رائحة العصبية القبلية والمذهبية الطائفية.. إلى آخر التوصيفات الممكنة التي نتحاشى قولها في زمن اللهاث وراء جائزة ما، تُقاس بحجم الشتيمة لنفسك ولأصولك.

في كل مرة ترقب المشهد، ستكتشف الشيء نفسه: شاعر يرى في وطنه "طيناً وتخلّفاً" فتحتفي به الحافلات العامة وتجبر كل راكب أن يقرأ نصوصه، ثم يخرج ناقدٌ، من جلدة الشاعر، ليُخبر أن "في الغرب اسماً لامعاً وظاهرة شعرية ناجحة تحتفي بها حتى الحافلات العامة..". لكنه، ذلك الناقد، لا يُخبر القوم عن سيل الشتائم التي أطلقها الشاعر بحق وطنه وما فيه.

حتى لو تركت الأدب وكل الفنون جانباً، ستجد في الغربة مفرقعات كلامية كثيرة، كما فعلها ذات يوم مثقّفٌ نظامي في دمشق، حين أراد أن يفهمنا كم يعشق فلسطين لكن من دون الفلسطينيين.

مفرقعات قد تكون دينية أيضاً، مثل إمام قاد حملة، كادت تعيدنا إلى "زمن الفرنجة"، حين أراد أن يخبر عن ضرورة مقاطعة "زبدة لورباك"، بل وما هو أكثر من ذلك، ظل الشاب، وقد كان إماماً مفتوناً بكل الرقاب المشرئبة إليه في الدنمارك، إلى أن أُدخل المطحنة الفكرية فخرج مروَّضاً، بمعية سياسي وبرلماني من أصل عربي يطلب على الهواء مباشرة "وأنا أريد هامبرغر مع البيكون" (أو شرائح الخنزير المقدّد)؛ وفجأة تحوّل من إمام إلى طالب في مدرسة الفكر القائل: إما التماهي أو المطحنة لأجيالكم بالمرصاد.

أين هو الإمام أحمد عكاري؟ يمكن التأكد بأنهم لاكوه حتى الرمق الأخير ورموا به في جزيرة غرينلاند، كـ إيان هيرسي علي تماماً.

لكن القصة لا تنتهي مع هذا النفخ الغربي في أرواح شرقية مشتتة وتائهة. يحيى حسن، أيضاً، شاب من أصول فلسطينية مقيم في الدنمارك، اختار في سن مبكّرة أن يتمرّد، وهذا حقه، فلا جدال في حق الناس في التمرّد على ما لا يناسبها.

لكن، أي تمرّد؟ ثلاثة أعوام مرّت منذ الاحتفاء بكتابه الشعري، ثم حماية أمنية لصيقة به؛ فهو "مهدّد في حياته بسبب تمرّده". لكن، على من تمرّد يحيى حسن؟ على أمه وأبيه؟ طيب، وما دخلنا نحن جميعاً لنكون أمام ظاهرة يرانا من ثقبها مجتمع بأمسياته ونقاشاته التلفزيونية والبرلمانية. ذلك هو الأمر اليوم، فيحيى حسن الذي كَتب وكُتب عنه كثيراً، يجد نفسه أيضاً وقد لاكوه مثل الآخرين، فالشاب في الأخير لم يعرف كيف يخرج من جلده.

ولأن الشاب حاول قبل سنة الوصول إلى عضوية البرلمان، لم يسعفه الحظ كما أسعفت "الليبرالية" في هولندا إيان هيرسي علي، فانتهى به الحال مطروداً من حزب وطني أُسّس في الأصل من قبل دنماركيين من أصل باكستاني، فلا هو استطاع أن يكون "جاذباً" للأصوات ولا "منفّراً" للفلسطينيين منه.

في منتصف الطريق، انقطع الحبل بيحيى حسن، ولا يزال البحث جارياً عن آخر، فالنفخ الغربي مستمر ليقنعك بأنك ابن ثقافة لا تستحق سوى السحق. إنها ببساطة واحدة من يوميات غربة بعضنا، بل الأصح اغترابه، وقد نرى طوابير مصطفّة منبهرة وهي تدلّي رقابها مرضاة لـ "ثقافة المركز".


اقرأ أيضاً: لاجئون في سلة الأحكام الجاهزة

دلالات
المساهمون