قرقنة.. جزيرة تجبّ ما قبلها

07 ديسمبر 2016
(من قرقنة، تصوير: فولكو كويلكي)
+ الخط -

زارها في قديم الزمان، الرحّالة الشريف الإدريسيّ، فقال عنها في كتابه الشهير "نزهة المشتاق في اختراق الآفاق": "هي جزيرة حسنة عامرة بأهلها، وليس بها مدينة، وإنّما سُكْناهم في أخصاص، وهي خصيبة، كثيرة الكروم والأعناب".

ثمّ حلّ بها الشاعر المغربيّ محمد بنّيس، في عصرنا الحديث، فذكرها في كتابه "العبور إلى ضفاف زرقاء"، بأسلوب رائد الفضاء الذي حطّ بمركبته على كوكب جديد، حين قال منبهراً: "كانت لحظة النزول إليها شبيهة بالنزول في زمن بدء الخليقة، سكّان وزائرون يقطعون البحر لينتقلوا إلى زمن منسيّ. وبمجرّد وطء أرض قرقنة، داهمتني نفحة غريبة، ومن داخلي أحسست بابتسامة تصعد ثمّ تحملني خفيفاً، وأنا الراكب لا أبتغي وصولاً إلى مكان ما. من أيّ نفس نشأت هذه الجزيرة؟ لا تسأل عن الزمن هنا".

هكذا يتكلّم الشعراء في قرقنة، الجزيرة التونسيّة الصغيرة التي تَجُبُّ ما قبلها، فتُنسيك ضجيج المدن وزحمة الطرقات وضغوط الزمان والمكان، حالما تنزل من الباخرة لتسير على أرضها. ستضبط، حينئذ، عقارب الساعة على إيقاع الليل والنهار، والشمس والقمر، والمدّ والجزر، في بحر رحيم بالصغار والكبار، لا يغرق فيه أحد، لأنّه لا يغضب ولا يثور ولا يغدر.. بحر مُسالم، متواضع يتأثّر بسحر القمر وجاذبيّته، فيخجل في أثناء الجَزر وينسحب، ثمّ يعلو مزهوّاً بنفسه عند المدّ.

في قرقنة، مسقط رأسي، أحبّ السير في الطريق الترابيّة المؤدية إلى بيتنا القديم حيث عاش أجدادي. يلذّ لي المشي حافياً، لأُذكّر القدمين بوخز الحجارة الصغيرة والأشواك الطريّة وملمس التراب الساخن في أيّام الصيف، كما كنتُ أفعل مع أقراني عندما كنّا أطفالاً حفاة. ما زالت الطرقات والمسالك حافلة بالذكريات. أسلّم على الديار مشرعة الأبواب، وشجرةٍ أعرفها تشبّثت بجذورها، وبئرٍ قديمة صمدت في وجه الدهر.

لكن، في السنوات الأخيرة، شاهدتُ بيوتاً تُهدم وأخرى تقام على أنقاضها. الدار "العربي" تختفي من المشهد العمراني بسرعة مزعجة. والسقيفة المفتوحة تتحوّل إلى أسوار عالية وأبواب حديديّة مغلقة. وتراب الطريق يختفي تحت الإسفلت الأسود البغيض. لا أحبّ الطرقات التي عُبّدت لأنّها تمسح ذاكرة الممرّات المتعرّجة بين البيوت. ولا تعجبني الأبواب الحديديّة الموصدة، لأنّها شديدة البخل في أحيائنا الكريمة على الدوام.

لحسن الحظّ، مازالت سقيفة دارنا على حالها، لم يصبها ما أصاب الدور المجاورة من تغيير. والباب مفتوح على مصراعيه، وهناك يجلس الشيخان، أبي وأمّي، في انتظار إطلالاتنا في عطلتي الشتاء والصيف مع الأحفاد الصغار. يقول أبي مرحّباً: "أهلا بالعصافير!". فنحن في عينيه كطيور مهاجرة لا تنسى مواسم الذهاب والإياب.

في ساعة الرحيل، يغلق المغادرون أبواب البيوت الصيفيّة، للسفر إلى مدائن العالم القريبة في تونس، والبعيدة في أوروبا، وفي بلاد الخليج، وأميركا وكندا. شباب قرقنة ورجالها ونساؤها مُدرّسون وأطبّاء ومهندسون وملاّحون يعملون في مشارق الأرض ومغاربها، ولكنهم يعودون إلى جزيرتهم كلّ صيف، فتفتَح كل الديار القديمة أبوابَ سقيفاتها ونوافذها لتتراقص الأضواء، ويعلو هتاف الصغار، وتمتلئ الطرقات والأسواق. فكيف انتهى كلّ ذلك الصخب في طرفة عين؟

رحلة الشتاء والصيف من جزيرة قرقنة وإليها. تفريغ الحقائب وتعبئتها مرّات ومرّات، إحساس المغادرة لا يشبه إحساس القدوم. يغادر أبناء قرقنة جزيرتهم، فيشاهدون من الباخرة جسدها المُلقى على سطح البحر يبتعد شيئاً فشيئاً... قطعة من اليابسة يحاصرها الموج، ويحوّلها إلى وطن مهجور.

رحلة الشتاء والصيف من جزيرة قرقنة وإليها. آن للشيوخ أن ينعموا الآن مع خريفهم وشتائهم بهدوء تقاعدهم ورتابة ليلهم ونهارهم دونما زحمة أمام المخبز والمتجر، وفي المسجد الصغير حيث يلتقون في جماعة من صفّ واحد غير مكتمل... سيأسفون قليلاً على ابتعاد أبنائهم وأحفادهم، ولكنّهم في حقيقة الأمر راضون بدخول الجزيرة في سبات طويل لا يقظة منه إلاّ في عيد، أو عطلة مدرسيّة، أو صيف جديد.

المساهمون