أئمّة الإسلام: ودّ الأوّلين وتناحر الأتباع

18 فبراير 2015
مخطوطة عربية من القرن الثالث عشر
+ الخط -

اختلاف الرأي لا يفسد للودّ قضيّة، بيت شعر قاله أحمد شوقي، على لسان قيس بن الملوح في مسرحية "مجنون ليلى"، يصوّر إلى حدّ كبير العلاقة بين كبار الأئمة من الفقهاء.

فقد كانوا لا يتعصّبون لآرائهم، ولم يدّعِ أحدهم يوماً أنّ اجتهاده هو الصواب وحده. وكان كلّ واحد منهم يحترم رأي غيره، ويطبقه وإن لم يكن قد قال به، سداً لباب الاختلاف، وتأكيداً على أنّ كلّ الآراء يجب أنّ تلقى التقدير بدرجة سواء. والأهم من ذلك أن تعامل الأئمة الكبار مع بعضهم بعضاً، الأحياء منهم ومن سبقهم إلى الرفيق الأعلى، كان مثالاً لتبادل الاحترام.

ولأنّ مستويات فهم النصوص تتفاوت بين هذا وذاك؛ لاختلاف القدرات والملكات والفروق الفردية في التحصيل والذكاء والقدرة على الاستنباط وأثر البيئة المحيطة والمناخ الثقافي السائد، كان من الطبيعي أن تحدث بعض الاختلافات والخلافات. فعلى سبيل المثال، كانت آراء الإمام أبي حنيفة النعمان في بعض مسائل العقيدة مثاراً لانتقادات الإمام مالك بن أنس. وبرغم ذلك لم يصل الأمر بينهما إلى ما نراه الآن من تكفير، بل كان أقصى أو أقسى ما قاله الإمام مالك هو البوح برأي يمكن أن يفسر بالمدح أو الذم.

فقد روى جمال الدين أبو الحجاج المزي في "تهذيب الكمال": "قيل لمالك بن أنس: هل رأيت أبا حنيفة؟ قال: نعم، رأيت رجلاً لو كلّمك في هذه السارية أن يجعلها ذهباً لقام بحجته". وقد حمل بعضهم هذه الرواية على المدح، في حين حملها غيرهم على الذمّ.

وفي مقابل ذلك، لم يؤثر عن أبي حنيفة قول سوء في الإمام مالك. والأعجب من ذلك أن نجد الإمام الشافعي، الذي تتلمذ على يد الإمام مالك، يثني على أبي حنيفة النعمان فيقول: "الناس عيال على أبي حنيفة في الفقه".

وإلى مثل ما قال به الشافعي ذهب سفيان "الثوري"، فقد قال محمد بن بشر: "كنت أختلف إلى أبي حنيفة وإلى سفيان (الثوري)، فآتي أبا حنيفة فيقول لي: من أين جئت؟ فأقول: من عند سفيان. فيقول: لقد جئت من عند رجل لو أن علقمة والأسود حضرا لاحتاجا إلى مثله. فآتي سفيان فيقول: من أين جئت؟ فأقول: من عند أبي حنيفة. فيقول: لقد جئت من عند أفقه أهل الأرض".

تميّز الأئمة الفقهاء بأنّ أحداً منهم لم يبغِ على مخالفيه. فلم يؤثر عن الشافعي الذي خالف أستاذه، مالك بن أنس، في بعض الأمور أن اعتبر مالكاً غير مجتهد أو غير فقيه. ولم يقف مالك موقف المتذمّر من مخالفة تلميذه إياه. وكان اختلاف هؤلاء الأعلام الأوائل رحمة، وما كان أيّ إمام منهم لينتظر من أحد أن يقلّده أو يلزم قوله. وكانت قاعدة "قولي صواب يحتمل الخطأ، وقول غيري خطأ يحتمل الصواب" هي التي تحكم العلاقة بينهم.

ولكن هذه العلاقة المحترمة بين الأئمة الكبار تناساها الصغار، أي أتباعهم، عقب ذلك. فحين قدم الإمام الشافعي إلى مصر استقبله المالكيون بتشريفة كتلك التي كان ولا يزال يستقبل بها زبانية السجون المصرية من يدخل إليهم. يقول الكندي في "القضاة": "لما دخل الشافعي مصر كان ابن المنكدر مالكي المذهب يصيح خلفه: "فرّق الله بين روحك وجسدك"، ثم قام المالكية بضرب الشافعي ضرباً عنيفاً بالهراوات".

ولما وجدوا أن الشافعي يلتزم بقول الإمام مالك في فتاويه سكتوا عنه، وإن ظلّوا متوجّسين منه، مراقبين كلّ كلمة يقولها أو يخطّها. فلما مرّت الأيام، وألّف الشافعي كتاب "الردّ على المالكية"، الذي خالف فيه آراء الإمام مالك وتلاميذه، تنكّر له المالكيون، واستعدوا عليه سلطان ذلك الزمان لكي يطرده من البلاد.

وفي هذا قال ابن حجر: "لما وضع الشافعي كتاب "الردّ على المالكية" سعوا به عند السلطان، وقالوا له: أخرجه عنّا، وإلا افتتن البلد، فهمّ السلطان بذلك، فأتاه الشافعي والهاشميون، فكلّموه فامتنع، وقال: إنّ هؤلاء كرهوه، وأخشى الفتنة".

ولم تنحصر عملية استعانة المالكية بالسلطان على الإمام الشافعي، بل طالت تلاميذه وأتباعه من بعده، حيث تمّ التضييق عليهم لدرجة أنهم مُنعوا من حقّ الاجتماع ومدارسة أفكارهم وآراء شيخهم. وعن هذا يقول ابن حجر: "ولم يكفّ المالكيون عن السعي بأصحاب الشافعي عند السلطان حتى بعد موته.

يقول البويطي، خليفة الشافعي: "لما مات الشافعي اجتمعت في موضعه جماعة من أصحابه، فجعل أصحاب مالك يسعون بنا عند السلطان، حتى بقيتُ أنا ومولى للشافعي، ثم صرنا بعد نجتمع ونتألّف، ثم يسعون علينا حتى نفترق، فلقد غرمت نحواً من ألف دينار، حتى تراجع أصحابنا وتآلفنا".

وهكذا تحوّل الاختلاف المحمود بين مؤسّسي المذاهب الإسلامية إلى خلاف مذموم بين تلامذتهم والمنتسبين إليهم من الفقهاء، بسبب التعصّب أو الغلوّ في الرأي. ووصل الأمر بينهم إلى حدّ تكفير بعضهم بعضاً، وتحريم الزواج من بنات الفرق الأخرى. فإن تمّ الزواج فإنّ الزوجة تُعامل باعتبارها بمنزلة الكتابية.

وقد حدث هذا بين الحنفيّة والشافعيّة. إذ أفتى أتباع المذهب الحنفي بعدم جواز الزواج من الشافعية لأن أتباع الشافعي يرون الاستثناء في الإيمان، كأن يقول الشخص: "أنا مؤمن إن شاء الله". أما الحنفية فيرون أن هذا الاستثناء تشكيك في وجود الإيمان. والشكّ كفرٌ عندهم وعند المذاهب الأخرى، وهو من أصول الردّة. لكنّ بعض علماء الحنفيّة تساهل مع المرأة الشافعية قليلاً فأنزلها منزلة المرأة من أهل الكتاب.

وقد عدّد زين الدين ابن نجيم الحنفي في "البحر الرائق شرح كنز الدقائق" شروط اقتداء الحنفي بالشافعي، في مسألة الاستثناء في الإيمان: "فاعلمْ أَنَّ عباراتهم قد اختلفتْ في هذهِ المسألةِ، فذهبت طائفةٌ من الحنفيّة إلى تكفير من قال أنا مؤمنٌ إن شاء اللهُ، ولم يقيّدوه بأن يكون شاكّاً في إيمانه... وصرّح في روضة العلماء بأنّ قولهُ إن شاء الله يرفع إيمانه فيبقى بلا إيمان، فلا يجوز الاقتداء به... قال الشيخُ أبو حفصٍ في فوائده: لا ينبغي للحنفيّ أن يُزوّج بنته من رجل شفعويّ المذهب، وهكذا قال بعض مشايخنا، ولكن يتزوّج بنتَهم تنزيلاً لهم منزلة أهل الكتاب".

والأدهى من ذلك، أنّ الخلاف بين الصغار وصل إلى حدّ تحالف فريق ما مع أعداء الإسلام للانتقام من أتباع الفريق المخالف له في المذهب. ونكتفي بمثال واحد هنا هو ما وقع في أصفهان في عهد الدولة السلجوقية. فقد حدث تناحر بين أتباع الحنفية والشافعية، إلى حدّ جعل بعضهم يتمنى لو دُمّرت أصفهان وانقلبت خراباً يباباً.

وزاد الطين بلّة أنّ الشافعية اتصلوا بالمغول، وفتحوا لهم أبواب المدينة، طبقاً لاتفاق عقد بين زعماء الطرفين. ولكن المغول عندما دخلوا المدينة بدأوا بقتل الشافعية من دون رعاية للاتفاق الذي سبق أن عقدوه معهم، ثم قتلوا الحنفية وسائر الناس، وسبوا النساء وشقّوا بطون الحبالى، وأشعلوا النار في المدينة فأحرقوها عام 633 هـ/ 1236 م.

وهكذا أدى اختلاف الصغار إلى دمار شامل، نتيجة الغباء والتعصّب الأعمى، ونسيان ما اتّفق عليه الكبار.

المساهمون