أصدر الكاتب الفرانكو جزائري بيار رابحي (1938)، حديثاً، كتاباً يحمل عنوان "تقارب الوعي"، يسلّط من خلاله الضوء على الأسباب الكامنة وراء إخفاق العالم المعاصر، رغم التطوّر التكنولوجي، في التصدّي لمشكلات الفقر عبر العالم، كما يقدّم آراءه ومواقفه المعارضة للحداثة بحلّتها المعاصرة، والتي يصفها بأنها "حداثة بلا روح"، إضافة إلى دعوته إلى إعادة النظر في لاوعينا المضمر أو العلني، تجاه قضايا المجتمع، والبيئة تحديداً، وقناعته أن لا سبيل لتغيير المجتمع، دون تشارك في الوعي بالأخطار التي تحدق بالبشرية.
يُعتبر رابحي نقطة التقاء بين فضاءين؛ عالم الخبراء وعالم الكتّاب، إذ نشر أعمالاً روائية وبيوغرافية، كما أنه أحد أبرز المتخصّصين في ميداني البيئة والزراعة. كان صاحب كتاب "الإيكولوجيا والروحانيات" قد أشرف سنة 1981، على تدشين أوّل برنامج في ميدان الزراعة الإيكولوجية، بوصفها بديلاً لا مناص منه، للتخفيف من معاناة الفلاحين، في محاولة التصدّي لحالات الركود الإيكولوجي والاقتصادي، ممثلاً في مشكلات الجفاف.
وفي سنة 1988، أصبح رابحي خبيراً دوليّاً في مجال الأمن الغذائي ومكافحة التصحّر، تحت رعاية الأمم المتحدة، وبات يشارك بخبراته في البلدان الأفريقية التي تتميّز بشحّ مواردها الفلاحية، في سعي منه لمساعدة شعوب دول العالم الفقيرة لمحاولة تأمين غذائها، وسرعان ما طُبّقت مفاهيمه النظرية في مجالي الزراعة البيولوجية والإيكولوجيا، في مجموعة من البلدان الإفريقية منها على الخصوص: مالي والنيجر وبوركينا فاسو. كما شارك في صياغة اتفاقية الأمم المتحدة في مواجهة ظاهرة التصحّر، علاوة على أنه أحد المؤسّسين لـ"حركة الأرض والإنسانية".
"رابح رابحي" هو الاسم الأصلي لـ بيار رابحي، فهو من عائلة مسلمة، تقطن أقاصي الصحراء الجزائرية، في بلدة صغيرة تسمى القنادسة، على الحدود الجزائرية المغربية. كان والده رجلاً فقيراً، مارس مهنة الحدادة، لسدّ قوت عائلته، وكانت القنادسة بلدته، تشتهر بتواجد منجم كبير للفحم الحجري، يأتيه العمال من جميع أنحاء المعمورة.
بدت القنادسة على صغر مساحتها، بلدة كوسموبوليتية بامتياز، يقطنها سكّان من جنسيات أوروبية وأفريقية مختلفة، واستناداً إلى بعض الوثائق والمقالات التي دوّنها صحافيون أجانب عن تاريخ المنجم، بلغ عدد سكانها في سنة 1946 نحو 14 ألف نسمة، من بينهم 1500 معمّر أوروبي من جنسيات مختلفة. كما كانت تصدّر مادة الفحم بكميات كبيرة، نحو أوروبا بواسطة سكة حديدية أنشئت لهذا الغرض، تربط بين الجزائر والمغرب. غير أنه ومع بداية استقلال الجزائر، عرف إنتاج الفحم تدهوراً بسبب هجرة الكثير من العمال، ليتوقّف استخراج الفحم نهائياً بعد سنة 1975.
أمام ضيق ذات اليد، وبعد وفاة أمه، تعهّد والده بتربيته إلى عائلة فرنسية، وهو لم يبلغ بعد الخامسة من عمره. وهكذا حصل على تعليم فرنسي تضمّن تربية مسيحية، من هنا تم اختيار "بيار" اسما له، بدل "رابح" اسمه الأصلي. ومن القنادسة انتقلت العائلة الأوروبية رفقة ابنهما بالتبنّي إلى مدينة وهران، ثم استقرّت نهائياً في فرنسا.
في ظل اشتغالاته المتنوّعة في ميادين البيئة والزراعة والكتابة، يطلق الوسط الثقافي الفرنسي على رابحي أوصافاً عدّة، قلّما تجتمع في شخص واحد: فهو الكاتب والمفكر والخبير والمزارع والمخترع، كما أن يوجد من يطلق عليه لقب الفيلسوف. هذا ويحمل أحد الشوارع الفرنسية اسمه - وهو لا يزال على قيد الحياة - ولعله أمر نادر الحدوث في فرنسا، كما تسمّى باسمه إحدى الحدائق الفرنسية، التي قام فيها بتجارب زراعية.
يحضر رابحي بقوّة في مختلف وسائل الإعلام السمعية والبصرية الفرنسية، كما تعرف محاضراته وندواته إقبالاً واسعاً، في جميع المدن الفرنسية وبعض البلدان الفرانكوفونية، للاستفادة من خبراته في ميداني الزراعة والبيئة، والاستمتاع بما تجود به قريحته في ميادين تخصّصه وفي مختلف مجالات الحياة. كان آخرها استضافته في البرنامج الأدبي الفرنسي "المكتبة الكبرى" على القناة الفرنسية الخامسة، للمرّة الثانية، في 13 تشرين الأول/ أكتوبر 2016، بمناسبة صدور كتابه "تقارب الوعي". وقبل سنوات أنجِز حوله عمل وثائقي بعنوان "باسم الأرض" يستعرض مراحل طفولته، وهويّته المشتتة، وصولاً إلى مساهماته العلمية.
ورغم الشهرة الواسعة التي حققها رابحي، وترشيحه من طرف الفرنسيين لنيل "نوبل للسلام"، يبدو في بلده الأصلي شخصاً غير مرغوب فيه، يبرز ذلك من خلال عدم دعوته للمشاركة في الملتقيات التي تنظمها الجزائر بين الحين والآخر، والتي تُعنى بميداني البيئة والزراعة. بدوره، لم يعد رابحي إلى الجزائر منذ أن غادرها وعائلته الفرنسية، في 1962، رغم أنه يزور معظم البلاد العربية، كان آخرها المغرب حيث أنجز سلسلة محاضرات في الأسبوع الأوّل من الشهر المنقضي.