أن تكتب هو أن تبحث عن هوية، هكذا يُخبرنا جاك دريدا، وهو الذي جعل من الكتابة موضوع انشغال رئيسا في مساره الفكري فتقاطعت داخلها حقول وإشكاليات كثيرة مثل اللغة وتاريخ الفلسفة ورؤية العالم. فماذا يحدث حين نكتب خارج اللغة الأم، أو في حال أصبحت هذه اللغة تائهة مِنا لسبب من الأسباب، فنكتب بلغة غير لغتنا؟
كانت الكاتبة والشاعرة والمخرجة المصرية صفاء فتحي من بين الذين رافقوا دريدا في سنواته الأخيرة، وقد نتج من هذا القرب شريط وثائقي من إخراجها بعنوان "من مكان آخر، دريدا" (2000) يمثّل اليوم أحد المداخل المحبّذة لعالم صاحب "أُحادية لغة الآخر"، إضافة إلى تقاطعات أخرى بينهما في مجالات الفلسفة والكتابة حيث قدّم دريدا بعض أعمالها كما أشرفت بين 2010 و2016 على "المعهد الدولي للفلسفة" الذي كان المفكّر الفرنسي أحد مؤسّسيه.
في موقعها www.safaafathy.org، تحضر "أطياف" دريدا وسيكون من غير الممكن ألّا نتصفّح هذا الفضاء الافتراضي دون أن تحضرنا الكثير من مقولات الفيلسوف وأوّلها خيارات الكتابة ولغتها. هناك ثلاث لغات للموقع: الفرنسية والعربية والإنكليزية، غير أن لغة الكتابة، لغة الإبداع، لغة التصميم والتفكير هي الفرنسية في الغالب. هناك مسحة عربية خفيفة وجميلة في الموقع لكنها تقف كخلفية فحسب، ويعود ذلك إلى أن الموقع هو في النهاية مجموعة إحالات إلى منجز فتحي، والمكتوب في معظمه باللغة الفرنسية.
ملامسة هذا المنجز ممكنة من خلال أربعة أبواب؛ شعر و"دراسات" (essais) و"مؤلفات" (fiction) وأفلام، وها أننا منذ تسمية الأبواب نقف على بعض تفسيرات علاقة فتحي باللغة، فلا يطابق مفهوم الـ essai مفردة الدراسات، وأكثر من ذلك لم يتأسس في الثقافة العربية جنس معترف به يحمل خصوصيات ما تفيده الكلمة في الفرنسية أو الإنكليزية، علماً أنه الجنس الذي يحمل معظم الكتابة الفكرية في هذه الثقافات، وضمنه وضعت فتحي أعمالاً مثل: "مومياء الموت المهزومة"، و"شعارات، شاشات، تأكيدات، نظر وتصديق"، و"تدوير الكلمات: على حافة فيلم"، و"شبح اسمه المستقبل"، وهي أعمال لم تشتهر في البلاد العربية، ليظلّ كتاب "إرهاب" عملها الفكري الوحيد الذي وصل إلى العربية بترجمة بشير السباعي. بعد ذلك لن نستغرب أن عناوين أعماله ضمن هذا الباب قد بقيت بحروفها اللاتينية حتى في النسخة العربية من الموقع.
في أفلامها أو في نصوصها التخييلية، يضيء الموقع بالخصوص إشكاليات مثل العلاقات المعقدة بين الواقع والخيال، والتحوّلات الموازية للمكان والذات، والعلاقات شرق-غرب بعيداً عن التصوّرات الجاهزة التي يتداولها المثقفون هنا وهناك. ومثل الصورة التي ترافق تعريفها، تبدو صفاء فتحي وكأنها تنظر إلى "مكان آخر"، مكان خارج الذات بحكم تعريفه، ولكنه داخلها لأن الآخر أحد مكوّنات الذات، كما يقول بذلك أستاذها جاك دريدا.