في حديثها مع "العربي الجديد"، تُلقي الشاعرة الكتالونية الضوءَ على علاقتها متعدّدة الأوجه بالشعر، حيث تصفه بأنه "رحلة إلى الداخل"، مشيرةً إلى أن قراءة الشعر ليست واحدة، إذ يختلف تلقّيه وتذوّقه، لكنها تؤكّد أن الطريقين ضروريتان ليصل إلى الناس.
■ لديك خمسة كتب شعرية، والملاحظ أنّ كلّ واحدٍ منها ينظمه خيطٌ عام، بمعنى أنك لا تجمعين قصائدك كيفما اتفق، فلكل كتاب ملامحه وجوّه...
أؤمن بوجوب أن يشتمل كل إصدار على وحدة عضوية. صحيحٌ أن كتبي تحتوي على ذلك، أي على خيط وروح، لكن من جهة ثانية تظلّ كل قصيدة بإمكانها الاستقلال عن الأخرى. أعتقد أنه لا ينبغي فقط أن يكون للكتاب خيط ناظم، وإنما أيضاً أن تُشكّل القصيدة استمرارية للكتاب.
■ كتابك الأول صدر وأنت في الثامنة عشرة، وفاز بإحدى أهمّ الجوائز في كتالونيا. تُرى ماذا بقيَ منه الآن؟
كتبتُ هذا الكتاب مبكراً جداً. ومنذ ذلك الحين، لم يبق منه الكثير في روحي. إن بقي منه شيء فهو كتابة الشعر كلجوء، فهذا أمر استمرّ معي. كذلك ربما بقي معي ذلك الإحساس الذي يرافقني ويُتبعني: إحساس الفقدان. ليس فقدان الأعزّاء والأحباب تخصيصاً، ولكنه الفقدان بكل معنى الكلمة. هذا الإحساس المؤسي هو الذي دفعني إلى كتابة الشعر باعتباره خيمة لجوء. مع الوقت، ومع السنّ، يصبح الشعرُ مثل إنسان يُحضّر حقيبته للسفر والرحيل؛ فالشعر هو راسِبُ البشرية ووحدَه ما يمكث في الأرض.
■ بأي معنى؟ السفر كرحيل؟ كغياب؟ كموت مؤقّت؟ أم تقصدينه بوصفه استعارة للموت الكبير؟
باستخدام استعارة الحقيبة كرمز للرحيل، فإني أصف الشعر، كل مرّة، كرحلة إلى داخلي وليس إلى الخارج. وهذه الرحلة كلّما كتبتُها تكون أفضل من النتاج القديم، أي الرحلة السابقة.
■ أي أن الموت ليس حاضراً شعرياً عندك حتى اللحظة؟
كلّا؛ فالإحساس به دائماً هو ما يؤثّث خيالي الشعري منذ كتابي الأوّل. إنه موجود وحاضر على الدوام في الحواس. أنا، مثلاً، أريد أن أعيش بشكل مكثّف، القليلَ من الأعوام على أن تكون مليئة. ومثلما أريد الحياة، كذلك أريد الموت: موتاً مكثّفاً إن أتى.
■ تركتِ بلنسية مراهقةً، وتقيمين في برشلونة. ماذا أعطت لك المدينتان وماذا أخذتا منك؟
خرجتُ من بلنسية، ولم أُكمل المرحلة الثانوية إلّا هنا. صحيح أنني لم أولد في هذه المدينة، ولكنها هي التي ربّتني، وصنعت مني المرأةَ التي تحدّثك اليوم. برشلونة أعطتني الكثير، وأعتقد أنني أعطيتُها الكثير بالمقابل. فالمدن كالأشخاص؛ مع كل شخص لديك علاقة، سواءً كانت جيّدة أم سيئة، وعلاقتي ببرشلونة علاقة مَحبّة.
■ هل يراودك الحنين إلى أرض طفولتك، والشعر هو أرض الطفولة الأولى، كما يُقال؟
في كل الأماكن التي عرفتُها وخبِرتُها، المكان الوحيد الذي أرجع إليه إنما هو قريتي. عروقي في تلك القرية، وملاذ لهجتي، لهجتي الكتالانية التي لا أستطيع التحّدث بها إلّا مع ناسها وبين طين دروبها. إنها (القرية) تمشي معي حيثما حللت في أي مكان، وتسكنني أبداً فكرةُ الرجوع إليها.
■ كتبتِ شعراً عن مدينة نيويورك. يبدو أنها أرضتكِ..
نيويورك مدينة جذبَتني. المدن بعامة هي أدب. وبما أن كل مدينة يوجد معها ما وراء المدينة، فثمّة أدب ما وراء الأدب، كذلك. نيويورك مدينة تتبدّى فيها أفدح وأبشع التناقضات. فمن جهة، هي مدينة المال في جبروته، وكذلك الرفاهية. ومن جهة أخرى، هي مدينة تتحدث معك، تعيش على مستواك. لوركا مثلاً قال عنها إنها "جومتريا"، فثمة ناطحات سحاب وثمة الإحساس بالضغط والاختناق. هي عندي استعارة المدينة حيث كل شيء يمكن أن يحدث.
■ كيف دخلتْ هذه المدينة في شعرك؟ من أي مدخل؟
ذهبتُ إليها، وفي ذهني ترجيعات لمقولة لوركا: "إذا أردت معرفة نفسك، فاغترِب". وجدتُني في مدينة عملاقة، ولمّا كان من المهمّ عندي أن أصل إلى قيعان الأشياء، فقد غامرت. ذهبتُ لأتعرّف عليها، ورأيي الآن أنها مدينة لا تشبه مدن أميركا الأخرى. بل أقول إنني أراها مدينة غير أميركية. أنشأتُ هناك علاقة مع كُتّاب أميركيين، والشاعرةُ التي أحبها كثيراً، إليزابت بيشوب، هي واحدةٌ منهم، وأظنّها أكثر من أثّر فيّ. طريقة كتابتها تشبه الخرائط، خرائط نفسية للكائن البشري المُعذّب.
■ تبتعدين في شعرك عن المطروق، ويبقى الواقع هو مرجعك. كيف يتجلّى هذا في توطيد صوتك؟
لا ينبغي على الشاعر أن يبتعد عن الحقيقة، بل أن يمسّها مراراً، ومن أصغر وجوهها إن قَدِر. الشعر ينبغي أن يكون وعداً، أن نتعامل معه كوعد. وهذا الوعد إمّا أن يكون جميلاً راقياً أو متعلّقاً بموقف ما.
■ لكن، ثمّة شبه قناعة أن الشعر والموقف لا يلتقيان. هنا على الأقل، في العالم الرأسمالي. بماذا تُعقّبين؟
لا أعرف كيف أُجيبك جواباً قاطعاً هنا، إنما شعري مثلي. في قصائدي هناك انتماء إلى الشعر، وإلى الفقراء في خط واحد معاً. أحياناً، يكون الشعر ناقداً للموقف، ويكون في موقف فنّي أفضل. أحياناً، تريد كتابة موضوع، فتكتبه، فإذا به يذهب بك إلى مناطق أخرى، غير ما تقصد. مناطق سياسية، وهذا بالإجمال يدخل في نطاق "الوعد" أيضاً.
■ بمعنى، إن الشعر في جميع حالاته هو وعد، بغض النظر عن محتواه؟
نعم، هو كذلك.
■ من أين وممّ تشكّلت خصوصيتك كشاعرة؟
أولاً: أعيش حالة من اللاتوافق مع العالم، بناسه وأشيائه. وقد عشت نوبات تساؤل لا أتذكر عددها. وبقراءة الشعر ـ شعر الآخرين ـ وجدت أجوبة من داخل الشعر نفسه. يحدث في أوقات أن لا أجد أجوبة عبر كتابتي الشخصية، لكن في أوقات أخرى، تكون الأجوبة من خلال الشعر غير دقيقة، فبقراءة شعراء آخرين يسألون نفس الأسئلة، أجد أن ذلك يساعدني في إيجاد خيط الجواب.
■ مع أن الفن هو منطقة سؤال أبدي ولا يقدّم راحة الجواب؟
صحيح. لكن أحياناً تأتي الأجوبة، بعد ملاحظة أن الآخرين عندهم نفس أسئلتي؛ فالشعر عندي هو دائماً: "لماذا"، وليس "لأن".
■ ثمّة في شعرك تلك الملاحظات الهادئة للأشياء (ملعقة القهوة الصغيرة، مثلاً). كما نجد حسّ السخرية من الخسارات، حتى أحسستُ أن الحياة لديك هي أصلاً "خسارة"..
نعم وكلّا. لا أرى الحياة كخسارة، بل كربح، إلا أنه ربح بمعانٍ مختلفة عما هو شائع.
■ ماذا تقصدين؟
أقصد أن ما ربحناه يمشي إلى مآل الخسارة، سيّان في منتصف الطريق أو نهايته. وبمعنى أن الحياة ذاتها ـ تجربة العيش الفريدة هذه ـ هي كما الشعر، قد تكون أريكة تجلس عليها لترتاح، وقد تكون باباً لسيارة إسعاف؛ بابَ فرارٍ وخروج.
■ ما هي الجغرافيا في تصوّرك: استعارة أم هاجس مقيم؟
استعارة؟ لا. إنها هاجسي المقيم.
■ رغم صغر سنّك، كتبتِ عن الذاكرة، وذاكرةُ البشر مرواغةٌ مُخاتلة، تفلت منها أحياناً أهم وأثمن الأشياء. وهو ما يُحيلُنا إلى سؤال: كيف تعمل الذاكرة في الشعر؟
الذاكرة هي الإحساس، الإحساس ولا شيء سواه. ما من جدار ولا عازل يفصل بينهما. لِمَ؟ لأنهما أصلاً غير معقولَين. ألا تلاحظ أن عمل الذاكرة، حتى في الأشياء التافهة، يظل ذا معنى؟
■ تُرجمتِ إلى أكثر من لغة، كيف تنظرين لدور الترجمة في الأدب عموماً، وفي الشعر خصوصاً؟
الترجمة عندي هي جسر... أفضلُ الجسور قاطبةً على مدى عمر الإنسان العاقل؛ فعبرها نصل إلى آداب وثقافات وخبرات شعرٍ آخر. إنها تُوسّع عالمك الصغير المحدود. لقد عرفتُ شعراء كثراً من خلال الترجمة، وهذا فضْلُها عليّ. في الأعم، نحن لا نُقدّر المترجمَ حق قدره، ولا رُبعَ هذا القدر. فالمترجِم إنما هو ذاك الآخذ بيدنا إلى مجرّة، ملكوت آخر. وأثناء الطريق، يُعطينا كل شيء.
■ أنت أيضاً ناشطة ثقافية، ومساهمة في أكثر من مهرجان شعري، سواءً كتأسيس أو كمتابَعة وإدارة..
أعتقد أن الشعر لا يكفي أن يُكتَب فحسب. يجب أن يُقرأ ويُسمع كي تكتمل الدائرة. إنه لا يكتمل إلا بوصوله إلى الناس. وهذا، كما أعتقد، هو دور الناشط الشعري. وهنا، يوجد في سياق كهذا أمران مختلفان. شخصياً، أفضّل قراءة كل شاعر أحبه في البيت، وأكون معه وحدي. أن أُحسّ بشعره يملأ عليَّ فضاء غرفتي. الأمر الثاني، هو إقامة أنشطة شعرية من خلال جمعية، أو مؤسسة، أو مهرجان، إلخ...
■ لوركا تكلّم عن حاجة الشعر إلى ناقل حي، وبيثنتي ألكسندري قال إن الشعر تواصُل. المعنى نفسه. كيف تعلّقين؟
نعم. لا بد من إيصال الشعر إلى القارئ والمستمع على أفضل وجه ممكن. كي يربح الشعرُ ويربحُ القارئ والمستمع، فيربح بالتالي عالمُ النشر. أكرّر أن الأمرين مختلفان: القراءة في غرفة أو في مهرجان، ولكنهما ضروريان للشعر ومُتلقّيه.
■ ترأّستِ، قبل وقت قصير، "نادي القلم الدولي" في كتالونيا. ما هي خططك للشعر والشعراء في المستقبل؟
المأمول هو عمل مشترك بين النادي وأعضائه من الشعراء. إنه إرث نبيل يجمعنا جميعاً؛ فالمفروض أن نعمل على توفير نشر نشيط لأعمال شعرائنا، سواء باللغة الكتالانية أو بالإسبانية. أحياناً، يُوصل الشعراءُ اللاجئون لنا معلومات ومناخات لا نستطيع أن نراها بقوانا الذاتية أو حتى نقدر على فهمها. أمّا بالنسبة للشعراء الكتالان في النادي، فأعترف أن مشكلتهم ليست هيّنة. أظن أن مشكلة نادينا منذ أعوام، أنه مدَّ يده للخارج لمساعدة الأدباء ولم يعط نظرة عميقة إلى الشعر الكتالاني.عموماً، لا أدري إذا كان هذا هو دور "نادي القلم "أم لا، لكنني أظن أن دوره الأول والأهم هو الترجمة. نحن هنا نستورد ترجمات من كتّاب آخرين، ونصدّر أدبنا عبر الترجمة، في خط مقابل. لكن، من المهمّ والضروري جدّاً أن لا نُضيّع فرصة قدوم شعراء إلينا، فهذا يُعلّمنا ويُغني ثقافتنا.
■ في أحد أعمالك، كتبتِ: "كلّ كلمة، تحتاج إلى بيئتها الطبيعية/ الكتابة هي ابتكار إقامات في الغُرف: إيجاد سُكنى في الكلمات/ لا تقل المطر، بل السباحة/ ليس الهاوية، ولكن أن تقع/ كيف تقول، إن لم يكن، ما تسكن فيه هو حرْق لي؟"...
المقطع الأوّل، "بويتيكا"، تعني: الكلمة الشعرية داخل البيت الشعري عندما يعتورها وزنٌ ثقيل من الإحساس. ولا يستقيم الإحساس ولا يتكوّن إلّا في بيئته الطبيعية. هذه الطبيعة تحمل الإحساس، لأنها ترجع للبيئة. المقطع الثاني من الحياة، فالكتابة الأدبية والشعرية بالأخص دائماً ما تترك لها مكاناً في طبيعة الأدب (عالماً). صوابٌ هو ذاك الإحساس الشعري بأنك تسكن قصيدة وتصير هي بيتك، غير أني أجد بيتي في قصائد الآخرين مثل إليزابث بيشوبّ وغيرها. إن الشعر يعطيك إمكانية أن تسكن فيه كما تسكن في بيت حقيقي. في هذه الحالة، عندما يكون لديك إحساس أنك تسكن مع الشعر؛ فمع تعاقب الزمن، الليل والنهار، فإن ما يحدث هو أن تتبدّل روحك وجسدك، وكذلك يتبدّل الشعر.
بطاقة
شاعرة من مواليد قرية أوليفا بالقرب من بلنسية عام 1985، تعيش في برشلونة منذ 2003، وهي اليوم رئيسة "نادي القلم الدولي" في كتالونيا. لها خمسة إصدارات شعرية، وقد أُدرجت نصوصها في العديد من المختارات الشعرية، وتُرجمت إلى عدّة لغات. لها أبحاث في الشعر والأدب المقارن، وتُعدّ حالياً أطروحة دكتوراه حول شعر مارتا بيسارودونا. تقول أنجلِس في إحدى قصائدها: "لأن هذا كان حبنا: نفق زجاجي في بلد بارد".