مرآة الترجمة

16 مايو 2019
محجوب بن بلة/ الجزائر
+ الخط -

يُذكِّرُ الناقدُ الفرنسيُّ بْيِيرْ مَاشِرِي قُرَّاءَه بموقف نقدي لزعيم الثورة البلشفية لينين، يرى فيه الأخير أنّ الأثَرَ الفَنِيّ مِرآةٌ تنعكس فيها الحياةُ الاجتماعية والسياسية والطبيعية وغيرها. وقبل أن تصير المرآة والانعكاس مفهوميْن فنّيَيْن ونقدِيَيْن، كان المفهومان قد حضرا في التراث الثقافي الإنساني؛ فقد اهتمت الثقافاتُ البشرية دومًا بحُضور المِرْآة؛ فأُسْطوريا تُحيلُنا المرآة والانعكاس إلى "نَرْسِيسَ" أو "نَرْجِسَ"، على الأقل، الذي كان قدِ ازْدَرَى حُوريَّةَ الماءِ "إِيكُو" بِصَدِّها عنه، بعدما كان قد دعاها إليه، وأنْ لبَّتْ مُقْبِلةً؛ فَعاقَبَتْهُ إِلَهَةُ الخَجَلِ "نِمِسِيسْ" بأن يُفْتَتَنَ ويَتَوَلَّهَ بصورته منعكسة في ماءِ بُحيرة، وألَّا يجرُؤَ على الابتعادِ عن تأمُّلِها حَتَّى هَوَى غَرِيقاً في تلك البُحيْرة، التي نَبتتْ فيها زهرةُ النَّرجِسِ الشهيرةُ، بعد ذلك، مِنْ جَسدِه وَطَفَتْ عليها.

ويُشير مارْسِيلْ بْرُوسْت في "الزمن المُستَعاد"، إلى أنّ الكاتب الكبير عند تأليفه كِتابَه الحقيقيّ لا يكون مطالَبًا بابتكار المعنى العاديّ، لأنه يوجَدُ قَبْلًا في كلِّ واحد منا، وما عليه إلا أنْ يُترْجِمه. إنّ واجِبَ الكاتب وعملَه هما واجب المترجِم وعمله.

ويَنِمّ كلام بروستْ عن التفات إلى الآصرة المتينة التي تَصِلُ الترجمة بالكتابة، وأن الأولى تُبرزُ الثانية كالمرآة، ليؤكّد أنّ الترجمة- باعتبارها أثرًا أدبيًا مشتَقًّا ومختلفًا عَمَّا يُنعتُ بأنه أصْلٌ - يُنظَر إليها بصفتها مرآةً، أو هكذا يتصوَّرُ كثيرونَ الحالَ التي هي عليها أو دورَها، لأنَّ الترجمةَ ينبغي لها في نظرِهم، وضِمن تصوُّر معيَّن لمبدأ الأمانة، أنْ تُعنى بإعادة إنتاج "أصلِها" بصيغة آلِيَة وحيادية تُلغي ذاتَ المترجِم تمامًا، والذي لا مُبرِّر له لكي يقولَ شيْئًا عدا ما يُعتَقَدُ أنَّ النص يقوله، وبالصيغة التي قيل بها.

ينسى أصحاب هذا التصور المِرْآوِيّ للترجمة، الذي يُستمّد من فكرة الانعكاس الآلي، أنَّ تصوُّرهم تشوبه ثغرات عديدةٌ، لعلَّ أهمَّها أنَّه يَغْفل عن تضاريس وطيّات كثيرة عادةً ما يحتجن بها "الأصْل"، وأنّه بقدر ما يكون الالتصاق بالنص أكبر، يكُون الابتعاد عنه أكثر.

ويَعْلم المشتغلون بالترجمة أنّ فكرة المرآة مستحيلةٌ، وخير ما يُسْتَشْهَد به تَنوُّع النص الواحد واختلافه عند ظهور أكثر من ترجمة له في لغة بعينها، مما يعني أنّ الترجمة تَعَدُّدٌ تصويري يُحِيلُ عَلَى فكرة المرآة المهشَّمَة، التي تحدَّث عنها بْيِيرْ مَاشِرِي، والتي تلتقط الواقِعَ وتعكسه في أجْزَاءٍ مُتَفاوِتَةِ الأحجام. وبذلك تكون كلّ ترجمة، أي كلّ جزء من المرآة المكسَّرة، ليست سوى إمكانٍ من بين إمكانات كثيرة لإحسان ضيافة الغريب، وبذلك تكون العلاقة بين الترجمة وأصلها هي علاقة جزئية أيضًا، لأن "المرآةَ تمارس اختيارًا، وانتخابًا، ولا تعكس كليَّةَ الواقع الذي يُعرض عليها".

وبناء على هذا التصوُّر، يكون ما يُقدِّمُه المترجِمُ هو صورة للمؤلِّف في الصورة التي اختارها له مترجِمُه، والتي ستختلف حتْمًا عند إنجاز مُترجِم آخر ترجَمةً للكِتاب نفسه للمؤلِّف ذاته؛ لذلك قيل إنّ الصورة التي لدينا عن مؤلِّف ما، هي التي يصوغها بنفسه لقُرَّائه في لغته الأصلية، أما صورته في الترجمة فللمترجِمين يَدٌ في صياغتها.

وبصدد هذه القضية نختم بخرافة حكاها الكاتب الفرنسيّ مِيشِيل تُورْنْيِيه، لها علاقة وطيدة بالترجمة والمرآة، مفادُها أنّه في مملكة قصية وعجيبة نودِيَ إلى مباراة لتزيين قاعة في قصر الإمبراطور برسوم، فتقدَّم إليها فنَّانان، أحدُهما صيني والثاني إغريقي، فسألَ الإمبراطورُ الإغريقيَّ كم سيستغرق عملُه من الوقت، فأجابه بأنه سيستغرق الوقتَ نفسَه مثل الصيني، وحين سأل الإمبراطورُ الصينيَّ أجابَه بأنه سينجز العملَ في يَوْميْن.

ولما انصرم اليومان، سُئِلَ الإغريقيُّ فأجابَ سائِلًا: "هل انتهى الصينيُّ من عمله؟"، فقيل له: "نعم"، فقال: "إذن، أنا أيْضًا". كانت القاعة مفصولَة بستار سميك يحول دون رؤية الاثنيْن لعمل كليْهما. تأمَّل الإمبراطور وحاشيته عمل الصينيّ أوَّلًا واندهشوا: بُحيرات، جبال، طُيور التَّمّ والكركي، والحديقة المليئة أزهارًا وأوراقًا التي لا يُمكن تخيُّلها. سُحِب الستارُ وَدوَّتْ صرخةُ إعجاب أكْبَرُ من التي سُمعتْ بصدد عمل الفنان الصيني أصْدَرَها الجَمْعُ: لقد وضع الإغريقي مرآةً هائلةً حيث انعكستْ فيها الحديقة والبحيرات، وطيور التَّم والكركي، إضافة إلى كل المُشاهِدين، ومنحتْ تلك الحشودُ المتنوعةُ حياةً وبُعْدًا آخر للعمل الفنيِّ نفسه".

المساهمون