كان غسان كنفاني (1936 - 1972)، الذي مرّت ذكرى استشهاده أمس، يُمنّي النفس أن يعود يوماً إلى مدينته عكا التي ولد فيها، لكن عبوة ناسفة زرعها الإسرائيليون في سيارته نسفت فكرة عودة الجسد ملتصقاً بالروح إلى بلاده.
قضى وقتاً طويلاً مع الأطفال، وكتب لهم وعنهم قصصاً كثيرة، نُشرت عام 1978 بعد رحيله تحت اسم "أطفال غسّان كنفاني"، ربما كان يعرف أن أجيالاً متلاحقة ستفجّر الانتفاضة ويكون أبطالها أطفال وشبّان، ولو بعمليات طعن ودهس داخل الأرض المحتلّة.
مزج كنفاني الخيال مع الأنسنة الواقعية الفلسطينية، وصوّر الفلسطيني في رواياته على أنه إنسان كغيره: يحب ويكره، ينجح ويفشل، يخطئ ويصيب. لم يحاول تجميل صورة الفلسطيني بقدر ما حاول انتشاله من مصائبه وكشف الحقائق أمامه، وهو ما يتضح في مقالاته في مجلّتي "الرأي" الدمشقية، و"الحرية" البيروتية، وحين تسلّم رئاسة تحرير جريدة "المحرّر" في العاصمة اللبنانية، إلى أن أسّس مجلة "الهدف" في بيروت أيضاً.
"قضية الموت ليست على الإطلاق قضية الميت، إنها قضية الباقين"، بحسب صاحب "القبّعة والنبي" الذي كرّر مقولته: "لنزرعهم، شهداءنا، في رحم هذا التراب المثخن بالنزيف، فدائماً يوجد في الأرض متسّع لشهيد آخر".
كان يؤمن بالسلاح طريقاً للتحرير، وكانت كلماته تعادل الرصاص، هو الذي كتب: "إن كل قيمة كلماتي كانت في أنها تعويض صفيق وتافه لغياب السلاح، وإنها تنحدر الآن أمام شروق الرجال الحقيقيين الذين يموتون كل يوم في سبيل شيء أحترمه".
حارب الفساد والمفسدين ودعا إلى صفاء ونقاء الثورة، لأن "في صفاء رؤيا الجماهير تكون الثورة جزءاً لا ينفصم عن الخبز والماء وأكف الكدح ونبض القلب".
رحل غساّن مفتشاً عن وطن يشبهه، وهو من دعا شعبه عند كل ليلة إلى أن "يصبحوا على وطن". وهو ينتظر تحرير الأرض لترقد روحه في أرضه ولو بعد أربعة وأربعين عاماً من الغياب.
ولأنه يعيش في الذاكرة الفلسطينية الشعبية والأدبية، من المؤسف أن القيادة الفلسطينية لم تخصّص يوماً لهذا الكاتب أو جائزة تحمل اسمه. لم يعمل أحد على الكتابة عن مؤلّفاته وانجازاته الكثيرة، ولولا زوجته غير الفلسطينية، آني كنفاني، لما جُمعت مؤلّفاته ولما أصبح اسمه يطلَق على مؤسّسة للأطفال.