25 يناير وثقافة الثورة المضادة

25 يناير 2015
"الربيع لم يكتمل"، هاني زعرب (جزء من لوحة)
+ الخط -

لم يكن ميدان التحرير مكان تظاهر فحسب، بل كان أيضاً مرحلة ثقافية، قصيرة للأسف. كان قطيعة مع الوضع السابق لم تستطع أن تستمر. فمنذ يوم 25 يناير 2011، أصبح التجمع البشري المليوني حاضنة دافئة للشعر الصادق والغناء الجماعي الحيّ والرسوم الكاريكاتورية والجدارية، وحتى شعارات المطالب السياسية المباشرة أحاطها نفَسٌ فني.

من كان في الميدان، كان على يقين بأنّ مصر قد استفاقت على صباح ثقافي جديد. هذا، قبل أن يسير الجميع في متاهات السياسة، لتلتقي السياسة والثقافة مرة أخرى في مكاتب الوزارة الباردة، هناك حيث يتم تحرير "السياسات الثقافية" بصفة دورية. نعلم أن الميدان لم ينتصر للقطيعة التي أرادها، ولكن هل إن مكاتب وزارة الثقافة أمّنت لبعض الأمنيات شروط الحياة؟

في مصر، يبدو وزراء الثقافة مولعين بوضع "سياسات ثقافية" في شكل كتابات. فمنذ أن استقلت وزارة الثقافة عن وزارة الإرشاد القومي عام 1958، أصبح "تحرير" سياسة ثقافية سنّة لدى وزراء الثقافة.

ثروث عكاشة هو أول من وضع على الورق "سياسة ثقافية" عام 1968، ولم تمض ثلاث سنوات إلا وقد وضع خليفته بدر الدين أبو غازي "برنامج العمل الثقافي". ثم وضع عبد المنعم الصاوي "مشروعاً لسياسة ثقافية" في أواخر سبعينيات القرن العشرين. ولم يكن معقولاً ألا يقدم فاروق حسني سياسة ثقافية وهو الذي تولى الوزارة 23 عاماً، من 1987 إلى حدود الثورة، فأصدر كتاباً في الغرض بعنوان "الثقافة، ضوء يسطع في سماء الوطن". وقبيل أن "يرحل" زمن حسني مبارك، بُعثت "المجموعة الوطنية للسياسات الثقافية في مصر" في أيلول/ سبتمبر 2010 ليصبح تحرير سياسة ثقافية عملاً "مؤسساتياً".

جاءت الثورة، ففرضت تقلباتها وضعاً جديداً. تُركت ملفات الثقافة الرسمية على الرفوف، بينما ازدهرت الثقافة الشعبية في الفضاءات التي توفرت. لم تسترجع الدولة أنفاسها إلا بعد أن خمدت أنفاس الثورة والشارع في مطبات المسارات الجديدة. ومنذ أن استتب الأمر للدولة العريقة، لم يتأخر رجل الثقافة القوي في مصر اليوم، جابر عصفور، في تحرير سياسة ثقافية جديدة لمصر الثورة.

سياسة ثقافية تعترف: "إن ثورة 25 يناير قد غيرت بشكل جذري المجتمع السياسي السلطوي، وحولته إلى مجتمع ثوري بكل ما في الكلمة من معان ودلالات". يبدو الاعتراف بالتغيير الذي أنجزته الثورة مدخلاً إلى فرض حالة من "عدم التغيير". فالسياسة الثقافية الجديدة تبدو وكأنها ترجمة للسياسة الثقافية القديمة إلى لغة جديدة. الوثيقة في مجملها هي مجموعة توصيات (نشر ثقافة التجدد المعرفي الدائم - إنتاج خطاب إسلامي وسطي- إحياء الذاكرة الثقافية العربية...) يبرز منها فهم بأن الثقافة هي مجموعة مؤسسات تديرها الدولة.

ما يغيب هنا هو ما طرأ على الثقافة من متغيّرات. فلا تقوى هذه السياسات الثقافية إلا على أن تبسط ظلها على أجزاء معينة من الثقافة، بينما لا يزال الحديث عن "الثقافة كلها". مثلاً، انفلت الجيل الجديد فوق سكك التكنولوجيات الحديثة، وهو الذي لم يذكر في الوثيقة التي نشرت في نهاية تشرين الثاني/ نوفمبر 2014.

كانت الثورة فرصة لنرى ثقافة بحجم الشعب، تركزت في ما سُمّي "جمهورية التحرير" التي تأسست فيها، بالمناسبة، وزارة ثقافة موازية. أما وزارة الثقافة الرسمية، فقد بدت مترنّحة، ثم تبين أنها قد أخذت نفساً لتبدأ دورة جديدة. ولكي تقول إنها فتحت صفحة جديدة دعت إلى صياغة سياسة ثقافية جديدة. أصبحت "النخبة" عبارة عن مجموعة طاولات منصوبة للنقاش حول "السياسات الثقافية".

لقد انتقد جابر عصفور في عمله "احتفاء بالقيمة" رائد تحرير السياسات الثقافية في العالم العربي، طه حسين في كتاب "مستقبل الثقافة في مصر" (1938)، حين أشار إلى أن: "طه حسين ظلّ يفكر في العقل المصري بطريقة انتهت إلى تهميش السياق العربي". ويبدو أن عصفور، حين تموضع في موقع الفعل الثقافي الأول في مصر، يفكّر في العقل المصري بطريقة انتهت إلى تهميش السياق الثوري.

يقتضي منطق الهيمنة الثقافية أن تظل المؤسسات الثقافية ملكاً للدولة، وأن تظل مبادرات الدولة محرك الحياة الثقافية، وهنا يقع التناقض مع الإرادة الشعبية التي قالت إنها تريد ثقافة بلا وصاية. ولولا جبهات اليوتيوب والفيسبوك وبقاء الشارع متحركاً؛ لابتلع الجهاز البيروقراطي الكبير وجبته كما كان يفعل دائماً.

ها هي الدولة تمسك بأداة عجيبة هي "وزارة الثقافة" تسحر بها كل شيء. فإلى أي حد ما زال هذا السلاح فعالاً؟ هل من الممكن أن تظل الدولة فارضة للأمر الواقع الثقافي؟ ألم يتغير شيء من عصر وزارة الإرشاد القومي إلى عصر وزارة الثقافة ما بعد الثورة وما بعد العولمة؟ هل هي منّة من الدولة أن تنعكس الثقافة بحجمها الحقيقي في مرايا المؤسسات والفضاءات العامة ووسائل الإعلام؟ إصلاح الثقافة لا يمر من "وزارة الثقافة".

المساهمون