عبدالله حبيب.. مضى زمن طويل

23 فبراير 2016
(العربي الجديد)
+ الخط -
رغم اهتماماته المتوزّعة بين الشعر والسرد والسينما والترجمة، يقول الشاعر العُماني عبداالله حبيب أنه يجد نفسه في الشعر أكثر. يتمنّى حبيب، في حال لم يكن كاتباً، لو أنّه كان ممثلاً أو مغنّياً أو راقصاً أو مقاتلاً في "حرب عصابات"؛ ذلك أن التعبير الإبداعي في هذه الفنون يأتي من خلال الجسد مباشرة، وليس من خلال وسيط، كما هو الحال في الكتابة. هنا، يستحضر مقولة سارتر: "إن الانخراط الفعلي في اللحظة الحرجة، يُغيّب التمييز بين الجسد والعقل".

في حديثه إلى "العربي الجديد"، يقول حبيب إنه ليست لديه أسرار ليخبّئها على غرار العديد من المثقفين العرب، مضيفاً أنه كاتب "من طبيعة انتحابية وبكائية". أخذَنا الحديث مع حبيب إلى طيات الطفولة، مروراً بما سمّاه "تصادمه المبكر مع المؤسسة البطريركية"، وعرّجنا معه على مشاركته في "الربيع العُماني" كمواطن ومثقف. كما تطرّق إلى رحيل أمه مؤخّراً، واصفاً موتها بأنه "قرّبه من موته الشخصي"، إذ "حرّره من الموت".

عن عزلته في السنوات الأخيرة، يعبّر صاحب "ليلميات" عن نفوره من الوجود مع "الآخرين"، لكنه يخشى أن تتحوّل العزلة مع الزمن إلى انطوائية، رغم أنه يفضّل البقاء في غرفته، بين كتبه ومؤونته الليلية، وهي العزلة التي أثمرت كتابين صدرا حديثاً.

يبدو كاتب "صخرة عند المصب" نقدياً بشكل جذري نحو بطريركية الثقافة العربية وتحديداً ما يخص العلاقة بين المرأة والرجل حيث أنها "تفرض الحُب على مقاسها وشروطها الاجتماعية بل والسياسية، فيما الحُب بطبيعته مرتهن إلى الحرية وإلى آفاق وفضاءات أرحب، ذلك أن المجتمع يُكبّلنا حتى في خصوصيّاتنا العشقية"، مشيراً إلى أن كتابة رسائل الحُب تكاد تنقرض وصارت تعوّضها "أيقونة قلب إلكترونية".

وحول تواشج الشعر والسينما في تجربته، وكيف أفاد من ثقافته السينمائية في ما يخصّ استعارته لـ"الكادر" السينمائي في الشعر، يقول صاحب "مساءلات سينمائية": "حاولتُ أن أجعل لغتي بصرية في الشعر؛ ذلك أن الكادر السينمائي يعزل لقطة جمالية معيّنة عن سياقها، إذ ترى الشيء الذي يعنيك كمن يرى العالم من نافذة مفتوحة".

يضيف: "كما حاولتُ أن أُمنتج اللقطة المقرّبة أو الطويلة أو المتحرّكة وأن أترجمها في الكتابة الشعرية، وإن كان عليّ الاعتراف بأن هذا يحدث بشكل غير واعٍ أثناء الكتابة"، مشيراً إلى أن تجربته الشعرية تأثّرت أيضاً بالمفهوم الغربي "الحساسية الصوتية"؛ حيث تكون ترجمة مباشرة لمعناها من قبيل خرير وهسهسة، وغيرها مما تحفل بها اللغة العربية، كما يتّضح في نصه "طرْق" من كتاب "ليلميات" الذي عبّر عنه صوتياً: "تاك .. تاك.. تاك.. تاك" في أربعة مقاطع، منهياً المقاطع الثلاثة الأخيرة بحرف وطرق أقل "تـ ا ك"، ليترك القارئ يتخيّل المقطع ويكمله.

يوضّح حبيب أنّ أفلامه السينمائية الخمسة القصيرة: "حلم" و"رؤيا" و"تمثال" و"هذا ليس غليوناً" و"شاعر"، التي أنجزها في الولايات المتحدة والتي كان فيها مخرجاً وممثلاً وكاتب سيناريو، لا تدّعي "الريادة". يقول: "جاءت هذه الأفلام ببساطة مُبكرة زمنياً، وأنجزت خارج عُمان"، مثل تجارب الأخوين حاتم وسماء عيسى، مشيراً إلى أن هناك من يعاتبه على غيابه عن الإخراج السينمائي. يبرّر حبيب ذلك بأن "الشُحنة النفسية" يمكن تفريغها في الكتابة بشكل فردي، بينما السينما هي عمل جماعي مُرهق لا تحتمله عزلته الحالية؛ لكنه يفكّر في العودة إلى ذلك بين مشاهدة فيلم وفيلم.

في ما يخصّ تجربة الترجمة، يشير إلى أن الترجمة عملية إبداعية في حد ذاتها، متذكّراً بداياته التي تشبه المصادفة؛ حيث كان يقرأ يوماً ما في نيويورك كتاب "فضاء الأدب" لموريس بلانشو، وإذ بعبارة في الكتاب تستوقفه، تقول بما معناه: "مضى زمن طويل لكي يصل إلينا كافكا لينقذ القارئ من عُزلته". فصاح حبيب: "نعم.. نعم .. الترجمة تنقذ القارئ من عُزلته حقاً". وبدأ بترجمة المقالة من فرط إعجابه، وكان ذلك دافعاً ليترجم، لاحقاً، رسالة حب لبيتهوفن مثلاً، ونصّاً فرعونياً بعنوان "لمن أصغي اليوم" لكاتب مجهول ترجمه عن الإنجليزية نقلاً عن اللغة الهيروغليفية بتوقيع مترجمة سينمائية تدعى بيكاريد. بالنسبة إلى حبيب، غيّر هذا النص فكرة تقول بأن النصوص التراجيدية تأتي من بلاد جلجامش فحسب؛ ذلك أن الشاعر الفرعوني المجهول كتب بروح معذبة تنتمي إلى إنسان اليوم.

يذكر عند الحديث عن المأساة الإنسانية والحنين والفقد بأن الناس في قريته "مجزّ الصغرى" يتعجّبون من حضور القرية في كتاباته التي يصف علاقته بها بعبارة "أنا "من" مجزّ الصغرى لكن لست "في" مجزّ الصغرى"، إذ بدأ اغترابه باكراً ما انعكس لاحقاً حنيناً جارفاً مع العمر لهذه القرية الساحلية في شمال عُمان حين طوّحت به الحياة في أكثر من مكان بدءاً بالإمارات مروراً بقطر والبحرين والسعودية والأردن ومصر والمغرب، إضافة إلى محطات أجنبية مثل تايلند والمملكة المتحدة وإسبانبا وإيطاليا وكندا والمكسيك، كما درس في أميركا الفلسفة والسينما والدراسات السينمائية والثقافية حيث قضّى فيها قرابة ست سنوات لم تطأ فيها قدماه عُمان.

بسبب من موت أختيه محفوظة ولطيفة وخالته خديجة في عام واحد وفي سن صغيرة، يعتبر حبيب أنه وعى مبكّراً بقسوة الوجود، وأن "هذه هي الحياة: موت بعد موت"، إذ يتذكر "صوراً مشوّشة وظلالاً سينمائية لموت أختيه أمام عينيه مباشرة ولوعة أمه مريم على فقد شقيقتها الوحيدة" ما جعل كل هذا الفقد يطبع شخصيّته بل حياته كلها. يقول "لا توجد ذكرى سعيدة في طفولتي للأسف، وأنه لا شيء شكّل وعي مثل الفقد". يلوذ بالصمت مردّداً "لا يوجد شيء آخر" وكان الفقد الأكبر مؤخراً برحيل أمه، يتابع "إلى درجة أني أصبت بحالة تنّمل طيلة ثلاثة أسابيع من موتها إلى أن سلّمت بالواقع بعدها مكتفياً بالنظرة الأخيرة والليمون والصلوات".

في بوحه عن قريته، يذكر حبيب، تعوب الكَحالي، من أسماه "زوربا العُماني" الذي شكّل وعيه بـ"الصراع الطبقي" وهو بطل قصّته "العائد متوحّداً بالترتيلة الزرقاء" في كتابه السردي "قشة البحر: سرد بعض ما يتشبث"، إذ يشكل له هذا الإنسان "الأيقونة الخُلاصية" للقرية كلها، هذا الذي خاف على حياة حبيب أكثر من حياة ابنه حينما غرق بهما القارب في صباه والذي كان يسأل عنه كثيراً في أيامه الأخيرة، هذا الانسان المُدهش على حد تعبيره الذي كان يبوح له بكل شيء في تلك السن الصغيرة ليس بدءاً بالسحر وليس انتهاء بالجنس، وأنه يحتفظ بقصص مثيرة عنه في أرشيفه الشخصي سيُقنّع بها حكاياته، لكنه للأسف لا يحتفظ لا هو ولا عائلة الكحالي بصورة شخصية لتعوب، "الهامشي" الذي صار "متناً" في حياة عبدالله حبيب.


استعجال قطف الزهور
"ما دام الإنسان يستغل الإنسان فستكون هناك أحلام ثورية والأحلام هي ما يصنع المستقبل"، ويرى عبدالله حبيب أيضاً في سياق حديثنا معه عن "الربيع العربي" أن "تجربة الأجيال السابقة في العالم الثالث في ما بعد مرحلة "التحرّر الوطني" وإن اتسمت بـ "اليوتوبيا" وأخطأت في تطبيق نظرياتها على أرض الواقع خاصة الماركسية؛ لكن هذا لا يعني "نهاية التاريخ"، وما "الربيع العربي" إلا امتداد لأحلام جيلنا في الحرية والعيش الكريم".

يعتبر حبيب أن مشاركته في ما يسميه "أحداثاً" وليس "اعتصامات" في عُمان 2011، أتت متساوقة مع مواقفه الشخصية كمواطن ومثقف، ويرى أن هذه الأحداث إنما هي "تطوّر غير مسبوق في التاريخ العُماني المعاصر من حيث إنها كسرت حاجز الخوف لدى المواطن العُماني"، مضيفاً، أن "ثمة إنجازاً آخر لـ "الربيع العُماني" وهي تلك الهبّة الجماهيرية غير المسبوقة ضد الأوضاع السائدة والتي يحسب لنا - كعمانيين - فيها تمتعنا بالحكمة الكافية للخروج بأقل الخسائر الممكنة مما جنّبنا ما آل إليه "الربيع العربي" في بلدان أخرى من الواضح أنها ذاهبة إلى إتفاقية سايس- بيكو جديدة".

يعتبر حبيب، في الوقت نفسه، على الجيل الجديد الذي يستعجل قطف الزهور ويفتقر، في الوقت نفسه، إلى "نظرية تغييرية"، ذلك أنه جيل ارتطم بالواقع فوجده أكبر من أحلامه ما أوجد لديه "إنكساراً وخيبة أمل كبيرة"، لكنه جيل مختلف حقاً ويستحق حياة جديدة.


شهادات عن أرواح ووجوه
صدر الكتاب الأول لـ عبدالله حبيب "صورة مُعلقة على الليل: محاولات في الشعر والسينما والسرد" عام 1992، وكأنه بذلك يدشن اشتغالاته المتعددة التي ستتوزّع بعدها على قرابة عشرة كتب، إلى جانب أفلامه ونصوصه السينمائية، وصولاً إلى كتابيه الجديدين حديثي الصدور: "أنامل زَغْبى على عُزلة الشاهدة"، و"قنديل بعيد عن الشمس"، والذي ربما يلخص عنوانه الفرعي "شهادات عن أرواح ووجوه" الكثير من مسعى وجوهر صاحبه.


اقرأ أيضاً: سماء عيسى: منفى من الأشجار الصغيرة

المساهمون