وثمة من يحتفظ بتلك المفكرات من بين الأبناء أو الأحفاد في البيوت، وقد تجد من لا يسمح لأحد بالاطلاع عليها، لما يُحتمل أن تتضمن من الخصوصيات اليومية للأب أو الجد، أو لما يمكن أن تكون قد سجلته من الأسرار التي تخص آخرين في الحي أو العائلة أو القبيلة.
ومن الطريف أن يكون الأب، الذي نال قسطاً بسيطاً من التعليم، وقدرة أولية على القراءة، قد أجاز لنفسه أن يكتب تاريخ اليومي في زمنه، بينما يمتنع ابنه، أو حفيده، عن نشر أو إذاعة تلك اليوميات وقد مضى عليها زمن طويل وبعيد.
وثمة تساؤل محيّر بخصوص هذه الكتابة ذات الطابع السري، وهو: لمن يوجّه كاتب المفكرة كتابته؟ فكل كتابة تفترض وجود قارئ، فإذا كان الكتاب يتضمن أسراراً أو يوميات محايدة، أو تسجيلاً للكوارث الطبيعية، أو تفاصيل الحروب والمشاجرات، فإن الكاتب يريد أن يحفظها في تاريخ اليومي، كي لا تضيع.
بعض هذه الكتابات تتضمن تعبيراً عن الانفعالات والآراء التي يصعب قولها، أو الجهر بها، في ظل السلطة السياسية القامعة، أو المجتمع الذي يحظر الكلام في المسكوت عنه. وربما كان هذا واحداً من الأسباب التي تدفع الورثة للتكتّم على النصوص المكتوبة، وعدم نشرها.
ويذكرنا هذا الأمر بما فعله الشيخ محمد سعيد القاسمي باليوميات التي كتبها حلّاق دمشقي عاش في القرن الثامن عشر الميلادي اسمه شهاب الدين أحمد بن بدير، إذ قام القاسمي بتنقيحها، كما كتب على غلاف الكتاب، ومنحها اسم "حوادث دمشق اليومية"، وبدّل اسم الكاتب من أحمد بن بدير، إلى الشيخ أحمد البديري الحلّاق.
ولقد حقق هذا المخطوط المنقح في ما بعد، أستاذ التاريخ الحديث بجامعة عين شمس، أحمد عزت عبد الكريم، وعني بنشره في القاهرة، وليس في دمشق، كما تقول دانة السجدي التي أعدت دراسة موسعة عن المؤلف والكتاب ترجمت بعنوان "حلاق دمشق".
وسوف يظل كتاب "حوادث دمشق اليومية"، هو المرجع الوحيد المتوفر المطبوع بالعربية من هذا المؤلف، إلى حين طباعة المخطوط الأصلي الموجود في "مكتبة تشيستر بيتي" في دبلن بإيرلندا بحسب ما تقول الباحثة السجدي التي تدرس تاريخ دمشق وبلاد الشام في القرن الثامن عشر من خلال هذا المخطوط ، بدلاً من النسخة التي نتداولها اليوم.
ولا يعرف الكثير عن كتب مماثلة لكتاب البديري الحلّاق، ويمكن للمرء أن يستنتج، استناداً إلى تاريخ المفكرات، أن لدينا الآلاف من هذا النموذج التسجيلي، ولكن أهمية الكتاب ناجمة عن الطريقة التي سجّل فيها الحلّاق الحوادث اليومية، إذ لم يكتف بحياد المؤرّخ، بل تدخل، بوصفه متلقياً يعيش اليومي الذي يكتبه في تقييم متغيرات العصر سياسياً وأخلاقياً.