إيدا: بولندا بالأسود والأبيض

04 مارس 2015
لقطة من الفيلم
+ الخط -

منذ عرضه الأول، حظي الفيلم البولندي "إيدا" بإشادات النقاد حول العالم وبعدد كبير من جوائز المهرجانات العالمية، قبل أن يخطف أخيراً "أوسكار" أفضل فيلم أجنبي. عبر ثمانين دقيقة بالأبيض والأسود، يختار المخرج البولندي باول باوليكوفسكي موضوع الهولوكست خلفية تاريخية ليُشيد عليها فيلمه الروائي الطويل الذي يذكرنا بجماليات الصورة في ستينيات بريسون وروائع السينما البولندية في تلك الفترة.

إيدا، فتاة تعيش في دير للراهبات لم تخرج منه منذ وصولها إليه في الثالثة من عمرها كطفلة يتيمة. نتعرف إليها، بداية الفيلم، مع بلوغها سن الثامنة عشر وبدء التحضيرات لتنصيبها كراهبة. لكن، قبل دخولها عالم الرهبنة بأيام، ستخبرها إحدى "الأخوات" أن الدير على علمٍ بوجود امرأة يمكن أن تكون من أقربائها.

هكذا، تذهب إيدا لمقابلة من ستصبح الخالة فاندا. تلتقيها وتعرف منها أن اسمها الأصلي آنا وأنها يهودية الأصل وأن والديها قُتلا في الهولوكوست. تبدأ الخالة الشيوعية رحلة بحث مع ابنة أختها لمعرفة المكان الذي حُرق فيه الوالدان. تتقابل الشخصيتان في الرحلة، وتكشف المواجهة بينهما، تدريجياً، عن مواجهة أعمق وأكثر تعقيداً مما هو ظاهر في الإطار الناظم للحكاية العامة كرحلة البحث.

لقاء إيدا بخالتها ليس حدثاً عادياً يُقصد منه تدعيم حبكة الفيلم الأساسية، بل يتجاوز، وبسرعة، غايته الوظيفية والدرامية ليشكل نقطة انطلاق الحكاية ونهايتها. امرأة وحيدة في نهاية عقدها الرابع، شيوعية، مدخنة، تشرب الكحول بكثرة وتمارس الجنس مع رجال عابرين، ستلتقي مع ابنة أختها آنا، ربية دير للراهبات والمتدينة كاثوليكياً كما هو جليّ في لغتها ونمط تفكيرها وزيها الكنسي ورؤيتها للعالم أيضاً.

تخرج آنا من الدير الضخم بعد خمسة عشر عاماً قضتها فيه، لتتأمل وهي متجهة إلى بيت خالتها عبر نافذة الباص حركة الناس في شوارع المدينة وأحيائها الضيقة. اللقاء بين الخالة وإيدا يؤسس التناقض بين شخصيتيهما لدراما نفسية تتداخل فيها أسئلة الهوية مع النشأة والمعتقد، وفي الوقت نفسه يجهد الحدث القادم من الماضي ليكون فاعلاً في حياة الشخصيتين. فعودة إيدا المفاجئة إلى حياة الخالة تثير الماضي المدفون في داخل الأخيرة، لكن لا شيء يربط الفتاة بالماضي سوى أصلها الذي تكتشفه مع بداية الفيلم.

يبدو بناء الفيلم، وللوهلة الأولى، ماضياً في اتجاه خط درامي واحد، نحو التاريخ/ الأصل، فلا تتخلل حكايته أحداثٌ ثانوية أو حبكات موازية، لكنه سرعان ما يبرز أن متن الفيلم ليس التاريخ بل أثره في إنتاج أنماط ترث الفصام معه. بالنسبة إلى الخالة وابنة أختها، ليس المهم معرفة قاتل الوالدين بقدر الارتداد الطارئ إلى مكان الجريمة. كما يبدو ماضي الشخصيتيّن غائباً، فالمهم هو ما آلت إليه أحوالهما في الفيلم، أي ما بعد اللقاء. تمضي الفتاة وخالتها في الرحلة، يلف العلاقة بينهما مزيج متناقض من المشاعر بين الأمومة والصداقة، والغموض أيضاً، إلى درجة الصمت في أحيان كثيرة.

يمتاز فيلم "إيدا" بلغته البصرية الاستثنائية، التي كان عمادها اللقطات الثابتة والطويلة. في الاشتغال السابق، تبدو كل لقطة وكأنها صورة فوتوغرافية مستقلة، فاستطاعت برمزيتها العالية أن تجعل من الحوار تكثيف المكثف. وفي السياق السابق أيضاً، عمد المخرج البولندي على التقابل والتضاد بين شخصيتي إيدا وفاندا، فكانت معظم مشاهد فيلم "إيدا" تحيل إلى مواجهة في بولندا مطلع ستينيات القرن الفائت، راويةً، من خلال حكاية فائقة الخصوصية، صورة بلد كاثوليكي متدين أمام شيوعية متجبرة.

دلالات
المساهمون