صدر قديماً: "المسامير".. عبد الله النديم في أيامه الأخيرة

15 يوليو 2017
تمثال عبد الله النديم في الإسكندرية
+ الخط -

قبل وفاته في عاصمة السلطنة العثمانية، وبين العامين 1893 و1896، كتب الصحافي والكاتب عبد الله النديم آخر كتبه، وسمّاه "المسامير"، وأعطاه لأحد أصدقائه، واستطاع هذا من جانبه الفرار به إلى مصر وطبعه، فخرج الكتابُ على شكل مقدمةٍ وتسعة أقسام، أو تسعة "مسامير" كما ارتأى صاحبه، أحدّ من المناشير في قوة تأثيرها حسب تعبيره. ومع أن الكتاب خلا من تاريخ طباعته، إلا أن من المرجح أن يكون تاريخها في أوائل تسعينيات القرن التاسع عشر، أي خلال سنواته الأخيرة في الآستانة.

عبد الله النديم (1842-1896)، الملقب بخطيب الثورة العرابية، لم يكن وجوده في عاصمة السلطنة مصادفة، بل جاء بعد سنوات من المطاردة تعرّض لها بعد إخفاق ثورة عرابي في العام 1882، والاحتلال البريطاني لمصر عسكرياً. قضى عشر سنواتٍ منها متخفّياً ومتنقلاً في الريف المصري، إلى أن ألقت القبض عليه سلطةٌ أصبحت في قبضة المحتلين وفي خدمتهم. ونفته إلى يافا في فلسطين للمرة الأولى، ثم للمرة الثانية بعد عودته إلى مصر، إلى الآستانة بأمر من السلطان العثماني، لأنه لم يتوقف عن مقاومة البريطانيين، والاتصال برجال الحركة الوطنية التي استعادت حيويتها، وإيقاظ الوعي، فأصدر صحيفة "الأستاذ"، مستعيداً بذلك الدور الذي قامت به صحيفته "التبكيت والتنكيت"، ثم "اللطائف" التي كانت لسان حال الثورة العرابية.

في الآستانة، وجنباً إلى جنب مع جمال الدين الأفغاني الذي قرّبه السلطان عبد الحميد للاستفادة من دعوته إلى الجامعة الإسلامية، عاش شأنه في ذلك شأن الأفغاني في قفص، ولكن قفصه الحديدي اختلف عن قفص الأفغاني الذهبي. ووجد نفسه عاطلاً عن فعل شيء مما اعتاد؛ لا مجال لخطابة ثورية، ولا كتابة وتهييج للأفكار، ولا إثارة حماس أحد لأي من القضايا الاجتماعية، التي كان أول كاتب يتناولها في ذلك العصر. وأصبح يعيش في وسطٍ يكاد يكون خانقاً، محاطاً بالجواسيس. وسط تُكبت فيه الحريات، ولا يجد فيه متنفساً إلا في مجلس يجمعه بصديقه القديم الأفغاني.

في هذا الجو ولدت فكرة كتابه "المسامير"، أو على الأقل ولدت فكرة كتاب ساخر، يهجو فيه هجاءً مقذعاً شخصية رجل برز في تلك السنوات، يدعى أبو الهدى الصيادي، كان ملحقاً بحاشية السلطان، امتد نفوذه إلى كل أرجاء السلطنة العثمانية، في السياسة والإدارة والجيش، واستطاع، كما يقول المؤرخ عبد المنعم الجميعي، البطش بكل صاحب رأي حر. ولأن الصيادي هذا كان يكره الأفغاني بسبب منزلته لدى السلطان، التقط النديم هذه الفرصة لاستخدام قدراته وأفكاره التي كبتتها سنوات ما بعد التخفي والهرب، ثم النفي بشرط أن لا يكتب شيئاً في الجرائد يخص سياسة مصر.

صدر كتاب النديم هذا مع عنوان فرعي يقول "رواية الشريف أبي هاشم عن الشيخ مدين أبي القاسم الشهير بالعارف بالله"، ثم: "تأليف فقيد الأدب والتحرير المرحوم السيد عبد الله أفندي النديم الإدريسي الشهير. اعتنى بطبعه الشريف ي.ن.هـ. م.". وتصدرت صفحته الأولى صورة لشخص بعمامة ولحية، وتحتها السطور المنظومة التالية:
هذا الذي كان قبل دخوله / دار السعادة مقرفاً شحاذا
واليوم صورته تبيّن أنه / أضحى بأقبح حيلة أستاذا

ثم تبدأ المقدمة هكذا: "بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله المنتقم الجبار، القادر القهار، الخافض الرافع، الضار النافع... أما بعد، فقد ظهر الفساد في البر والبحر، وعم الشقاء بلاد الإسلام في هذا العصر، وحاق بأهلها العذاب، وتقطعت بهم الأسباب، واندكّ سور عظمتهم، وتفرّق ما اجتمع من كلمتهم، وتوالت عليهم البلايا، وفعلت فيهم ما لا تفعل المنايا، فذهبت أنفسهم حسرات، ولم تغن عنهم العبرات، حتى كادوا يمحون من صحائف الوجود، ويلحقون بعاد وثمود".

ويتبيّن القارئ، وهو يواصل قراءة هذا النمط من الكتابة الملتزمة بالسجع سطراً بعد سطر، أن المسمى أبو الهدى الصيادي هو الشخصية التي يمسك النديم بتلابيبها، وهي سبب الفساد والخراب. وينطلق، على رغم نفوذه وسطوته، في هجائه من دون أن يعبأ باحتمال أن ينتقم منه. فيرميه بمسمار بعد مسمار إلى أن يبلغ التسعة مسامير، وكلها خوض في سيرته وكشف عن دسائسه وتلفيقه التقارير المرفوعة للسلطان، والأكثر فضيحة اتخاذه الدين ستاراً لتنفيذ أغراضه، فأطلق عليه عدداً من الألقاب مثل "المسيح الدجال" و"أبو الضلال" و"ابن صائد"، وما إلى ذلك.

ابتكر النديم ما يشبه استحضار الشاعر الألماني "غوته" للشيطان، ليعقد معه دكتور فاوست حِلفه الشهير، ولكن صورة الشيطان الذي يأتي به النديم ويدخله بين شخصيات كتابه، هي صورة شيطان حزين وكئيب، والسبب هو ظهور منافس له من بني الإنسان في شخص أبي الهدى الصيادي، يقف وراء خراب البلاد، وشقاء العباد. ويستنجد الشيطان من مكر وخداع هذا الشخص. ولم يكتف النديم بهذا، بل تناول سيرة والد ووالدة الصيادي، واتهمهما بكل الرذائل والموبقات التي تمسّ النسب والشرف، فرسم صوراً كاريكاتورية مضحكة، تتضمّن مبالغات معتادة في هذا النوع من الفن.

ولم تتوقف سيرة هذا الكتاب عند تهريبه، بعد أن اتصل أبو الهدى بالسلطان وأبلغه بأمره، وزعم أن النديم شمله أيضاً بهجائه، فتشدّد هذا في البحث عن الكتاب ومصادرته، وأرسل شرطته لتفتيش بيت النديم، ولكن لم يقع الكتاب في أيديهم.

من سيقيّض له أن يلقي القبض على الكتاب وصاحبه بعد مائة عام على نشره، وهذا أغرب ما في الحكاية، هي رئاسة جامعة القاهرة في العام 1999. جاء هذا بعد أن بادر والتقط الكتاب عبد المنعم الجميعي، أستاذ التاريخ الحديث في الجامعة، ووضعه بين أيدي طلابه في كلية التربية، مع مقدمة تحليلية تضع النص في إطاره التاريخي، ضمن مقرر "تاريخ مصر السياسي". ولم تكتف الرئاسة بإيقاف تدريس الكتاب، بل أحالت الجميعي إلى مجلس تأديبي. وهكذا يمكن القول أن أعداء عبد الله النديم، أنصار أبي الضلال، عادوا إلى مطاردته ومصادرة كتبه وتشريده، ولو بعد مائة عام مرت على وفاته بعيداً عن وطنه.

دلالات
المساهمون