الترجمة في الزمن الرقمي

22 اغسطس 2019
(مقطع من عمل بعنوان "برج بابل" لـ كلاين إيوانا)
+ الخط -

دخلت البشرية عصراً جديداً يُنعت بالزمن الرقمي، الذي يُرسِّخ العولمة بشكل أكبرَ؛ بِمَا يطبعُه من اتصال مستمر بين أفراده ومجتمعاته ومؤسَّساته، والذي أصبحَ يُعرَف بالثورة الصناعية الرابعة، أو ما يُصطلح عليه بالصناعة 4.0، اعتباراً لاكتساح التكنولوجيا الرقمية بتطبيقاتها اللانهائية، وبإيقاعٍ لا تَخفى سُرعتُه، لمعيشِنا اليوميِّ في تفاصيله الدقيقة، ولتأثيرها في نمط عيشنا بسيل المعلومات، التي لا تفتأ تغمرنا بمعطيات متدفِّقة وابتكارات متلاحقة، تغزونا حتى في بيوتنا بأَتْمَتَة المنزل (home automation)، التي قاعِدتُها البرامج الرقمية المتنوعة والتطبيقات المختلفة.

ولعلَّ أبرزَ ما يُفيدُه الإنسانُ المعاصرُ من التكنولوجيا الرقمية قُدرتُها، بِرَقْنَةٍ واحدة على زِرٍّ في المحمول أو الحاسوب، على طَيِّ الزمان والمسافات، وعلى اقتصاد جهد الحركة والتنقل، إضافة إلى توفيرها لِكَمٍّ هائل من المعلومات في وقت طبيعي، لتكوين الذوات معرفياً وعِلميّاً بالتعلُّم عن بُعد، وإشاعة المعرفة عبر تيسيرِها المكتبةَ العالمية مباشَرَةً أو في قرص أو في ذاكرة تخزين أو في الحاسوب.

وتُسعف التكنولوجيا الرقمية في اقتناء كُتب حديثة أو نادرة، والحصول عليها سريعاً في صيغ متنوّعة من "وُورْد" أو "بي دي إف" أو "إِي بوب" أو "جي بي جي" أو غيرها.. وهي بذلك تَدَّخر لنا فضاءً مُهمّاً في منازلنا ومَكاتِبنا، ثم إنها تُسهم في حماية البيئة، بالحفاظ على مساحات مهمة من الغابات لعدم حاجتها إلى الورق، فهي تُغني مُستعمِلها عن استهلاك الأوراق وهو يشتغل على حاسوبه، بل إنها تُفيدُه باستمرار في إمكانية إدخال التعديلات على النصوص التي يُحرِّرها، كي تكونَ مُحيَّنة على الدوام، وتمكّنُه من صيانة معلوماته ومعطَياته بتثبيتها في الخدمات السحابية مثل "آي كلاود" وغيرها، ومن تسهيل التواصل بين العائلات والأصدقاء والمؤسسات بالفايسبوك والواتساب وغيرهما، والتَّرفيه على مستعملها الراغب في التسلية واللعب، إلخ.

ولعلَّ أبرز المستفيدين من التكنولوجيا الرقمية المترجِمُ المستقلّ، أي الذي لا يحتاج إلى العمل في مكتب إداري، لأنها تُيسِّر له وسائل الاتصال والتطبيقات المتنوعة للاشتغال منفرداً، مثلما تُتيح له الاشتغال ضمن مجموعات عمل عن بعد، بحيث يكون بوُسعه أن يستشير زملاءه أو يتبادل معهم وجهات النظر، بل إن الشبكات الرقمية تُشجّع على ذلك، لكونها تحرِّر المترجِم من الالتزام بالحضور في وقت محدَّد إلى مكان بعينه، وأنْ يتخلّى عن كثير من عاداته، التي قد تُقلِّل من مردوده.

وتُقدِّم التكنولوجيا الرقمية ذاتَها في الشبكة العنكبوتية مواقع مجانية للترجمة، وهي في تطوّر دائب وارتقاء دائم، وتتيح للمترجم أن يختارَ أجوَدَها وأكثرها تلاؤماً معه، ويتميّز من بينها محرِّك البحث "غوغل" الذي يُيسِّر هذه الخدمة بنجاعة محتَرَمة. كذلك توجد على شبكة الإنترنت مواقع لمؤسَّسات للترجمة المهنية، تلك التي تُقدّم خدماتها للزبائن بالأداء، لأنها تتوافر على مترجِمين محترفين يضْمنون بعملهم الرفيعِ الجودةَ والمصداقية.

ولا مراء في أن الابتكارات الرقمية، بتدفّقها الهائل، لا تفتأ تُمِد الترجمة بابتكارات هائلة واجتهادات كثيرة تُفاجئنا يومياً، منها الترجمة الآلية والآنية، حتى إنه لا مُبرِّر للحديث عن مستقبل الترجمة الآلية طالما أنها أصبحتْ أمراً واقعاً، لا يقف عند التوظيف التكنولوجي لها في العلوم والتدريس، وإنما يُلمَس في تفاصيل من حياتنا كالأسفار السياحية مثلاً، إذ يُمكن الآن التعامل بتطبيق في الهواتف المحمولة يخوِّل صاحبَه التواصل بيسر في لغتِه الأصلية مع لغات أخرى من ثقافات مختلفة، وقد راجتْ مؤخَّراً وَصَلات إشهارية تُروِّج لهذه التطبيقات والأجهزة المحمولة، ما يُعفي مُقْتَنِيها من اللجوء إلى المترجِم.

بل إنّ هذه التكنولوجيا بدأت تجد لها موطئ قدم في المؤتمرات، بما في ذلك مؤتمرات الترجمة نفسِها، كما عايَنَّا في مؤتمر أقيم في "معهد الترجمة والترجمة الفورية" بالدوحة في آذار/ مارس من العام الجاري، حيث وُظِّفت آلةُ الترجمة (Machin Translation) في بعض المداخلات، ونجحت في مهمَّتها بشكل معقول إلى حد كبير.

ويبدو أن أهمّ مجال تكتسحه التكنولوجيا الرقمية هو التَّرْسَطة، أي الترجمة السَّطرية المُصاحِبَة للأفلام الفنية والوَثائقيّة والرسوم المتحرِّكة، كذلك الترجمة لذوي الاحتياجات الخاصة من الصم والبُكم.

لكنّ التحدّي الأكبر الذي يقف أمام الترجمة الرقمية حالياً هو ترجمة الإبداع الأدبي؛ شِعراً ورواية وغيرهما، وهو مجال سيظل على ما يبدو متعذِّراً على التكنولوجيا، شأنه في ذلك شأن الموسيقى والتشكيل وفنون أخرى لا فكاك لها من اليد والخيال البَشريّيْن المُعجِزيْن والقادِريْن دائماً على تجاوز الآلة.

المساهمون