في وداع العالم للقرن الماضي، أمسى الاستعمار ذكريات في طور النسيان، وكان ذلك غداة تحلُّل عقد الدول الاشتراكية، وانتهاء الحرب الباردة. صار أصحاب الأيديولوجيات الاشتراكية المزعومة بحاجة إلى تجديد الاعتراف بأنظمتهم، لم تعد المنطلقات النظرية الشكلية التقدمية كافية، رغم أنها مودَعة في الأدراج، فنشدوا رضى القطب الأوحد ومعه الأقطاب الملحَقة به من الديمقراطيات الغربية، وخطبوا ودّ الرجعيات العربية. بات المطلوب طفرة تتلافى هذا النقص المشين المتخلّف عن عصر آخذ في الرحيل.
في الوقت نفسه، لم يعد هناك ما يقنع الشعوب بالنضال ضد لا شيء، إلّا إذا اعتبرنا أن السجون والمعتقلات نضال الأنظمة ضد شعوبها. في الواقع، لم يعد إطلاق الشعارات الوطنية والقومية إلا لتصريف ضجيج النزعات النضالية للديكتاتوريات العسكرية التي ترسّخت بالتضليل، بينما الأجهزة الأمنية تختلق المؤامرات لتقمع المعارضة وتكتم الأنفاس، والبرجوازيات الطفيلية لا عمل لها سوى النهب.
درءاً لمتغيرات قادمة، لوّحت الأنظمة بدولة حديثة ترث الدولة القديمة على مراحل، تبدأ بإجراء إصلاحات إدارية، لكن ليس قبل لفلفة ملفات الفساد، لكن الفاسدين كانوا على رأس هذا التغيير الذي لن يغير شيئاً بقدر ما سيكرس الاستقرار المتكلّس.
ما سيؤجل تحديث الدولة الجديدة بالفساد المتجدّد، ظهور الإسلام الجهادي، وكان خصماً حقيقياً، أقضّ مضاجع الطغاة، كان مبرراً قوياً لتأجيل أي إصلاح مفترض، باتت الأولوية لتحديث المخابرات، وذلك طبقاً لخطط موضوعة، كانت من قبل، تطاول الصلاة وإطلاق اللحى، ومدعاة للمساءلة والتسريح من الوظائف العامة والجيش، ووضع المساجد وكل ما يمتّ بصلة إلى الإسلام تحت الرقابة. فسارعوا إلى تقنين الدين، بالتشديد على اقتصار خطب يوم الجمعة على مديح رأس النظام والإشادة بالأخلاق ورضى الوالدين ونواقض الوضوء وصيام رمضان... أما المتدينون الذين كانوا البيئة الملائمة لـ"الجهاد"، فقُبض عليهم، وأُرسلوا إلى السجون، ومنه إلى المشانق، واحتُفظ ببعضهم ذخيرة لظروفٍ المخابراتُ أدرى بها.
ضربة الحظ، كانت تسجيل الجهاد المتأسلم ضربةً مؤلمة للغرب في "غزوة" نيويورك، فاستيقظ العالم كله على ما دُعي "الإرهاب الإسلامي العالمي". ولئلا ندخل في متاهة بحوث سياسية مطولة، سنركز على ما أصاب الدولة الشمولية من هذه الضربة، فقد استجارت بها الدول الديمقراطية، وذلك حسب تحليلاتهم بما يخص البلدان العربية: إنّ كل ما هو غير إسلامي، لا بد أن يكون علمانياً. وهكذا بقدرة قادر أصبحت الدول الشمولية علمانية لمجرد أنها ستطارد الإسلاميين وتقتلهم شر قتلة.
كان الإرهاب نعمةً هبطت على الأنظمة تحت تأثير الديمقراطيات الخائفة، وأصبح استغلاله ذريعة بقائها وتوارثها، بحكم تركيبتها العائلية والعسكرية والقمعية. لم تُؤخذ قصة الإرهاب كما وردتها من الغرب، أضيف إليها تحليل بعيد النظر وفي العمق: إذا كان الإرهاب مرتع الشرور، فالأنظمة ستصبح منبعه، ما أدى إلى توليد الإرهاب بشكل دوري، يظهر ويختفي على إيقاع أزماتها، فصار يولد في مكان، ويلفظ أنفاسه في مكان آخر، لكنه لا يموت، كان بسبع أرواح قابلة للزيادة، ما دامت الأنظمة الشمولية تمدّه بالحياة.
استُخدم الإرهاب كمخزون استراتيجي، وتجارة تكتيكية رابحة، بتصنيع إرهابيين عابرين للدول، يُخزَّنون في السجون، يُتاجَر بهم، بالعمل على إطلاقهم حسب حاجة المنطقة، ودول ما وراء البحار. واعتمد تنشيطه على مدّ الجسور إلى بلدان العالم، واختراق بؤر جماعية وفردية لديها ميول إرهابية.
بات الإرهاب عامل بقاء واستمرارية، يعمل على ابتزاز الغرب بتأجيجه، وتزويده بمعلومات عنه، والأنظمة الملكية بحمايتها منه. من الممكن تفهُّم رضى الغرب، وهو إذكاء الشعور بأن حضارته العظيمة مهدّدة من الشرق المسلم الحسود. أمّا الأنظمة الملكية، فالذين يدّعون الإسلام يهددونه بالحلول محله، ما دام الدين يجمع بينهما.
فشكراً للإرهاب، تعويذة الدولة الشمولية!