جيل الحرب وشرعية السخرية

24 يونيو 2015
"بالدور" لـ تالا مدني
+ الخط -

منذ أن دخلت الكارثة السورية نفق اللاعودة، بدأت تنمو في أوساط الناس القابضين على جمر الحياة نزعة ساخرة تجاه لغة النخب المتكلفة والمتعالية على عبثية الواقع ولامعقوليته وسورياليته، وعلى فقدان المعنى في أفق شاسع من الخراب، يكاد في غرائبيته واستحالة فهمه يستعصي على المخيلة.

وعلى الرغم من أن تلك النبرة المتعالية والمتكلّفة لا تزال تحكم خطاب النخب السياسية والثقافية، إلا أن واقع الحال في الشارع السوري، وخصوصاً بين شرائح الشباب يقول إن خطاب النخب أصبح مغترباً ومنفصلاً عن الواقع بشكل لا يقل عبثية وشذوذاً عن العنف المنفلت ذاته.

في هذا السياق، بدأت تتشكل ملامح لغة ساخرة وحساسية تهكمية يمكن تلمّسها في ما يتداوله الشباب على وسائل التواصل الاجتماعي، وفي ما يكتبونه من نصوص. إنها حساسية تسخر من كل شيء وتتجرأ على الكفر بكل شيء وتنزع القدسية المزيفة عن الشعارات والأوهام التي دمّرت البلاد والتي لا تزال النخب ترطن بها بجدية تثير الشفقة.

لا يمكن للكوميديا أن تكون أكثر قسوة في تعرية الواقع من تفاصيل هذا المشهد السوري الذي يتجلى التراجيدي فيه من خلال أقصى حالات الغروتسكية والتهكمية. مشهد يجتمع فيه المثقفون والسياسيون فوق أنقاض البلاد وبين جثث أهلها ليخوضوا في مؤتمرات لا تنتهي، مبارازات ومعارك كلامية تكاد تتطابق في مخيلة الشباب المتفرجين مع شخصية أوبو لـ ألفريد جاري أو مع مسرحة كوميدية لأسطورة سيزيف الذي أسقطه العذاب السوري على الخشبة عن عرش البطولة التراجيدية، وحوّله إلى مهرج ينحني لتصفيق الجمهور دون أن يعلم لمن كان التصفيق، له أم لصخرته.

تتخلق في هذه البيئة احتمالات ومسارات لنمو شخصية ثقافية جديدة تنهض من الرماد لتنظر إلى كل ما جرى في سورية بحساسية يمنحها الفقدان والخسارة شرعية أن تكون قاسية في محاكمة وقراءة ما فعله السوريون بأنفسهم، شرعية ثقافية سينتزعها في المستقبل القريب جيل الحرب الذي لن يجد أمامه سوى أن ينتج قراءته الخاصة للمشهد الرهيب الذي كان ضحيته.

سينتزع جيل الحرب هذه الشرعية من آبائه عندما يواجههم بالسؤال الذي يتكرر بعد كل حرب والذي طرحه بول قبل قرن في رواية إريك ماريا ريمارك "كل شيء هادئ على الجبهة الغربية": لماذا؟! وكبطل ريمارك سيمنح الفقدان أطفال سورية في شبابهم الوشيك بعد أن ينقشع الدخان عن هول الخسائر الحرية والجرأة ليقولوا كما فعل بول: "لم يعد لدي ما أخاف منه وسأواجههم بجرأة".

اعتقد الإغريق في عصر أرستوفانس أن الكوميديا أرقى من التراجيديا. يعود أساس هذا الاعتقاد إلى فكرة مفادها بأن التراجيديا تمثل رؤية الإنسان للعالم التي تعبّر عن خوفه من الألم والموت، بينما تمثل الكوميديا رؤية الآلهة للعالم من الأعلى، حيث تعكس هذه الرؤية مشهد الإنسان في رحلته الأبدية والدائرية المتكررة من المعاناة والأخطاء وعجز الإنسانية عن الخروج من دائرة العبث.

إن تلك الآلهة الإغريقية الكبيرة، العابثة والماجنة تراقبنا نحن البشر فنبدو في المشهد شخصيات كاريكاتيرية قذرة وعنيفة ومضحكة ومكررة. ربما سيرى جيل الحرب سيرة آبائهم من مسافة كهذه عندما تنهض ثقافة الحياة بحثاً عن ضوء جديد خارج السراديب التي صنعها الآباء.

لا بد أن الجيل الجديد سيبتكر أدواته التعبيرية وجمالياته الخاصة، ولا يمكن في خضم التحوّلات العنيفة التكهن بملامح الثقافة التي ستولد بعد الحرب، لكن يبدو أن نزعة السخرية والتهكم ستساهم في إنتاج حساسية تقطع مع الماضي بشكل قد يكون حاداً وقاسياً في البداية إلا أنه سيتطوّر لاحقاً ليكون فعلاً أكثر جذرية من الناحيتين الثقافية والإبداعية.

المساهمون