في مطلع كتابه النقدي "تجربة البحث عن أفق"، قال الروائي إلياس خوري إنه لم يعتبر الهزيمة، أي هزيمة الجيوش العربية في الخامس من حزيران عام 1967، سياقاً خاصاً قادراً على إحداث ردود الفعل السريعة التي تغيّر المجاري على المستوى الأدبي بشكل جذري، والراجح في رأيه أنها "كانت نقطة أيديولوجية فقط في تطوّر الرواية العربية". ولهذا فقد تابعت تلك الرواية تطوّرها السابق ضمن تعاملها مع هذه النقطة الأيديولوجية التي أثارتها الهزيمة.
هذا ما حدث في واقع الأمر، إذ لم تشهد تجربة الكتابة الروائية العربية اختراقات بنيوية عميقة على صعيد الشكل الروائي العربي، على الرغم من المحاولات النقدية القليلة التي سعت للحديث عن أشكال فنية روائية جديدة شهدتها ساحة الرواية.
وها نحن من جديد أمام مسألة مقاربة لما حدث في الستينيات، أعني بها سلسلة الثورات والانتفاضات العربية التي خلخلت المجتمعات العربية، كما زعزعت الأنظمة العربية كلّها. ولكننا لم نشهد بعد أي تغيّر في الأشكال الفنية، لا في الرواية، ولا في الشعر، ولا في المسرح. وليس لدينا ما يؤكد أن هذا سوف يحدث على هذا الصعيد.
ولعلنا نستطيع وضع السؤال عن موقف الرواية من الأحداث الكبرى في موقفين: الأول هو البحث عن الشكل، والثاني هو الاستفسار عن الموضوع. فمن منهما يمكن أن يكون أكثر قدرة على الاستجابة للتبدلات التي تحدث في الواقع؟ ثمة من يقول إن السؤال عن تبدّل الأشكال الأدبية هو الجوهري في قضايا الكتابة، ولكنه لا يمكن أن يحدث إلا إذا كانت التغيرات عميقة في البنى التحتية للمجتمع.
والأساس المعتمد في مثل هذه الدعوات هو الرغبة في قول أشياء جديدة ومختلفة في الخطاب عما كان سائداً في الحقب السابقة. كان الشاعر الروسي ماياكوفسكي قد تساءل علنا بعد ثورة أكتوبر "كيف تظلّ الأشكال الأدبية والفنية بدون تغيير وسط الثورات؟" وقد فشلت محاولاته لابتكار تلك الأشكال الأدبية الجديدة المناسبة للثورة السياسية والاجتماعية الكبرى التي حدثت في بلاده في تلك السنوات، ومن غير المؤكد أن ذلك حدث بسبب عجزه فنياً عن الابتكار، إذ إنّ السلطة لم ترحب عملياً بأولئك الشبّان الذين أرادوا خلق أشكال جديدة في الكتابة.
وتبدو مطالب ماياكوفسكي عادلة إذا ما فكرنا بأن ثورة أكتوبر قلبت العالم القديم كلّه، وأنشأت عالماً آخر مختلفاً تماماً عنه في السياسة والاقتصاد والعلاقات الاجتماعية. ومع ذلك فإنّ الرواية الروسية بعد الثورة ظلّت مخلصة لتقاليد الرواية قبل الثورة. ولم يكن لدى شولوخوف صاحب "الدون الهادئ"، أو باسترناك صاحب "الدكتور زيفاغو" غير أن يكتبا روايتين داخل الشكل الروائي ذاته الذي كتب به أقرانهما الروس من قبل.
ما الذي ينتظر الرواية العربية بعد التطوّرات التي تجري في أرض الواقع العربي؟ وهل يمكن أن نشهد نظاماً يحاسب على كيفية القول لا على القول وحده؟ أو ما الذي ينتظر الأدب والفن عامة؟ هل هما أمام مفترق طرق، أم أن الطريق القديمة لا تزال سالكة؟