جيرار لوغويك.. هكذا نتهجّى العالم شعرياً

23 ديسمبر 2019
(جيرار لوغويك)
+ الخط -

أخيراً، ودفعةً واحدة، أصدر الشاعر الفرنسي جيرار لوغويك ثلاثة عناوين هي: "في بلاد جورج بيروس" عن "دار الجبال السوداء للنشر والكتاب"، وفيه يروي قصّة علاقة جمعته مع الكاتب الفرنسي الراحل جورج بيروس (1923-1978). حشدٌ من الذكريات والأقاصيص والأحاديث تقدّم بيروس في حياته العادية، بعيداً عن الأساطير التي يُلفّ بها عادةً الكتّاب بعد غيابهم. يفتتح الكتاب بمشهد نهائي كما في السينما؛ مشهد ذلك اليوم الذي وَجد فيه لوغويك نفسه تحت المطر ووسط العاصفة مع أصدقاء بيروس في مدينة دوارنينيز وهم يوارونه الثرى في المقبرة البحرية.

يضمّ الكتاب الثاني، "باستيار"، نصوصاً عن حيواناته الأليفة وخاصّة القطط التي يقول عنها: "أحبّ القطط التي تشاركنا تلك الحاجة إلى العزلة وإلى الصمت والانطواء والمودّة... القطّ في المنزل هو الإخلاص والمتعة والدفء والخيال". هكذا يمضي في سرد شعري يسجّل تردّدات وذبذبات عوالم الحيوانات في النفس... وهذا يرتد بي إلى الجاحظ؛ أول من احتفى بالحيوان في الأدب العربي.

أمّا كتابه الثالث، فهو مختاراتٌ من قصائده مترجمةً إلى العربية عن "دار التوباد" في تونس؛ مختارات تمثّل أهمّ اللحظات الشعرية في مسيرته، قصائد مستلّة من مجاميعه: "ساعة كل يوم"، و" ثلاث قصائد لأزمنة الماء الثلاثة"، و" أودّ لو أن شخصا ما... ".

لماذا جيرار لوغويك؟ لأنه شاعرٌ يمسك لدى قراءته في مكان من نفسك غامض وحقيقي... يمسك بكلمات بسيطة مقتصدة أعادت للقصيدة الفرنسية عنفوانها كمساحة للكشف. كما احتفظ في قصيدته بالمتعة التي تمنحها لنا النصوص الحقيقية، متعة افتقدتها كثير من النصوص التي تُكتَب اليوم، وخصوصاً في فرنسا.

لوغويك صوت مفرد سرّي ومخاتل أعاد، مع أسماء مثل غي غوفيت، وجاك ريدا، وكريستيان بوبان، للشعر الفرنسي حيويته وغنائيته التي افتقدها عندما غلب التنظير والتجريد والهوس بالتحديث على الكتابة الشعرية.

كما أعاد للقصيدة قدرتها على التواصل مع القارئ. تجده يقرأ أشعاره في كل مكان؛ في المكتبات والمدارس وقاعات الجمعيات الأدبية والمهرجانات، في تواصل سعيد مع الناس وهو لا يتعامل مع العالم الرقمي، لا مع الإنترنت ولا المواقع الاجتماعية، لأن هذا التواصل التقني الرهيب والتجريدي قضى على التواصل الإنساني الحميمي والحقيقي.

وُلد جيرار لوغويك في باريس عام 1936، وتنقّل بين بلدان أفريقية عدّة؛ بدءاً بالجزائر حيث أدّى "الخدمة العسكرية"، ثمّ تشاد والكونغو وأفريقيا الوسطى، قبل أن يعود نهائياً إلى مسقط رأسه عام 1969 ويؤسّس دار نشر باسم "تيلن آرفور" (شجرة الحب).

أصدر لوغويك ثلاثين كتاباً في الشعر والمسرح والمذكّرات وأدب الرحلة. ومن أعماله الشعرية: "ليأت البحر"، و"الضجيج القديم"، و"صورة ذاتية بالأسود والأبيض"، و"جغرافية النهر"، و"قوارب في زجاجات"، و"دفتر الهايكو"، و"سعادة المطر"، و"سجل شجرة التفاح".


أزمنة الماء الثلاثة

هنا
كلّ الأشياء تتراكب فوق بعضها
البحر والسماء
وبرتقالة الشمس المسطّحة

الغيوم والزبد حول الصخور
الملح
فقط الجزيرة تتمزّق

هنا
قفا الريح
يُقرأ على سطح البحر

وفي الطقس الأزرق
قفا التيارات المائية
يتجعّد فوق سطح الغيوم الأفقي

الجزيرة هي الوحيدة
التي لا مرآة لها ولا نقيض

هنا
نادراً ما نحصد

للجزيرة أربعة فصول خريف
وأربعة فصول من الحب المتوحّد

هنا
المرئي يتحوّل إلى ماء
والأرض تتحوّل إلى جزيرة

والملح
هو اللامرئي
الرجال أيضاً
في حقول البحر المجمعة


هنا
يتوقّف الطفل أمام الطفل
والكلب يستثير الكلب الآخر

والجزيرة لا تسائل سوى نفسها

هنا
الجزيرة تستقبل الفجر أوّلاً

والليل
يسقط بدايةً فوق البحر

في الوسط، عند الظهيرة
يتحوّل الضوء سائلاً ويمضي في الماء

هنا
في الليل

يتبادلان
يأخذ الماء مكان السماء
وتأخذ قبّة الجزيرة مكان القبّة الإلهية

هنا
عندما تمطر
يتغطّى البحر بأوراق الأشجار

وتتغطّى الجزيرة
بقشرة تفّاحة.


■ ■ ■


قصيدة

خيولي لا ترهب سوى الشمس،
أسرَّ الرجلُ
والشمس تشعل مياه أحواض السقاية

والريح أيضاً، واصلَ قائلاً
والريح تحني الأعشاب

خيولي لا تتوجّس سوى من الأمطار
أضافَ
والمطر يهزّ الفساتين وأعراف الخيول

وخيولي تتوجّس أيضاً من العواصف والبروق
ومن الصاعقة التي تسقط حذوها

خيولي لا ترهب سوى الموت
تكلّم متفاخراً الرجل
والموت يدفع سياج الحظائر

وما يقلقني قال مختتماً
هي وسوسة الشيطان
وكان الشيطان يقيم تحت قميصه.


■ ■ ■


قصيدة

لا يمتلك شيئاً سوى التجوال
ودروبه القديمة،
وأمتعته الخفيفة.
لا يحتفظ بشيء سوى بالعناوين
الغامضة لفنادق العابرين،
وإقامات المطر
لا يعاني من أي مصير آخر
سوى جرّ السفن النهرية
تحويل الجزر العشوائية
لصداقات لا انتماء لأصحابها
وحبيبات داخل المدن الغريبة.


■ ■ ■


قصيدة

كلّ مساء أُحيّي أُمّي
وهي في ثياب عرسها
وبمرور الوقت انحرف إطار الصورة
الذهبي
ازداد عرضاً كما لو كان بفعل
حرارة غير حارقة
كانت أُمي تتقلّص داخل
هذه المساحة نفسها
تمضي نحو اللانهائي
مجتازةً النافذة
عابرةً حقل الحشائش
والنهر والوادي الأخضر
حتى أنها لم تعد تشكّل سوى نقطة دقيقة
فوق جدار خزّان المياه في البعيد
ألمحها بالمنظار
كل شيء امّحى من الصورة
لم تبق سوى الابتسامة الغائمة
فوق ظلّها المرتسم


■ ■ ■


قصيدة

كل يوم ساعة للمشي
وساعة للشعر
وساعة لتغذية طيورِ السماء
وتغذية أجسادٍ فردوسية أخرى
وساعة من أجل أن نكتشف صحبة الكلب
الدروبَ السرية وأجماتِ السَّحرة.
ساعة مع القطّة
لنتبادل الحذر والممانعة
وساعة كي نعترف للأشجار
حتى نهدّئ قلق الزهور
ساعة من أجل رسم غيوم على النافذة
ثم بعثرة سماء من حولها
ساعة بلا أي عمل يُذكَر
وأخرى كي نكون أي شيء
وساعة إضافية لنفس السعادة
ساعات عديدة مرهقة وخفيفة
لتحريك حياتنا
لفك رموز اللفظة، الكلمة الفريدة
في سجل الفضائل والموت.



المساهمون