جوسلين اللعبي.. أن نلاحق أحلام "الهراطقة"

10 يونيو 2014
+ الخط -

بعد تسع سنوات على صدور روايتها الأولى "عُصارة الصبر"، تعود الكاتبة الفرنسية المغربية جوسلين اللَّعبي برواية جديدة (دار "لا ديفّيرانس") تحمل عنوان "مهرطقون" وتتناول فصلاً مثيراً من تاريخنا: ملحمة القرامطة. رواية تبتعد كثيراً عن نصوصها السابقة، وتشكّل بالتالي تحوّلاً في مسارها.

لا نعرف جوسلين فقط كرفيقة درب الشاعر المغربي عبد اللطيف اللعبي منذ 50 عاماً، بل أيضاً كقاصّة خطّت حكايات للأطفال بموهبة سردية أثبتتها كذلك في روايتها الأولى، التي تناولت فيها سنوات طفولتها ومراهقتها في المغرب، والسنوات الثماني السوداء التي أمضاها زوجها الشاعر في السجن السياسي.

أما في روايتها الجديدة فتعود بنا إلى نهاية القرن التاسع الميلادي، حيث كانت صفحة الخلفاء الراشدين الذهبية قد طويت، ومعها صفحة الفتوحات الأموية. زمنٌ كان العباسّيون قد فقدوا فيه أيضاً ألق بداياتهم، كما تشهد على ذلك ثورة الزنج التي ستشكّل مصدر وحي وأرضية خصبة لانبثاق طائفة القرامطة، موضوع الرواية الرئيس.

تبدأ رواية اللّعبي بمشهد طفلٍ أسود يركض في منطقة الأهواز هرباً من المجزرة التي قضت فيها عائلته. وخلال اللحظات القصيرة التي يتوقف فيها عن الجري لاستعادة أنفاسه، نراه يتساءل حول هويته وأسباب هذه المجزرة الرهيبة؛ قبل أن يستقبله عجوز متزهد ويسرد له على ضوء شمعة قصة ثورة الزنج ودوافعها.

وهنا نتعرّف سريعاً إلى الظروف الفظيعة لحياة الزنوج الذين استُقدموا من زنجبار للعمل على تجفيف الأهواز، وإلى أملهم بمجيء مخلّص يحرّرهم، خصوصاً بعد أن بلغتهم أصداء وصول "مهدي" يبشّر بطريقة حياةٍ جديدة لا عبد فيها ولا سيد. ما سينمّي الأمل فيهم ويدفعهم إلى الثورة ضد أسيادهم التي ستدوم 15 عاماً، قبل أن تتمكن جيوش الخليفة العباسي من قمعهم بحد السيف، فيُقتل مئات الآلاف منهم ويفرّ الناجون مع قائدهم الروحي إلى شرق الجزيرة العربية (البحرين اليوم).

وبعد هذه المحطة، ننتقل مع الطفل، الذي سيحمل اسم "ولد"، إلى بغداد حيث نتعرّف إلى الشخصية الرئيسية الثانية (الأولى من حيث الأهمية) في الرواية، الحكيم المتسكّع والمؤرّخ أبو الفتح، الذي سيتبنّى "ولد" ثم يرافقه بعد سنوات إلى البحرين رغبةً منه في الاطلاع عن قرب على نمط عيش القرامطة وقوانين مجتمعهم، بدون أن يفقد حتى النهاية عقلانيته وحسّه النقدي المدهش.

وفي دولة القرامطة، نتابع مغامرة "ولد" العاطفية مع رباب، الجميلة وذات الشخصية القوية المستقلّة، ونشارك القرامطة حياتهم اليومية ومعاركهم، فنعرف تفاصيل الأحداث التي عايشوها أو وقفوا خلفها، من خلال رسائل أبو الفتح إلى صديقه أبو علي الذي بقي في بغداد؛ كما نتعرّف إلى المؤامرات التي كانت تحاك داخل البلاط العباسي حيث كانت أعلى الرؤوس تُقطَع أو يُرمى أصحابها في السجن وفقاً لنزوات الخليفة أو المحيطين به...

باختصار، تشحذ اللّعبي موهبتها الروائية لسرد حلم القرامطة بالعدالة الاجتماعية والمساواة، وكشف طبيعة الدولة التي أسّسوها في شرق الجزيرة العربية ودامت نحو قرنين من الزمن، ومبادئ عقيدتهم التي لاقت تجاوباً في مختلف أنحاء الأمبرطورية العباسية، بما في ذلك بغداد نفسها.

ومع أن الكاتبة سمحت لنفسها بهامش كبير من الحرية لسرد روايتها، إلا أنها آثرت البقاء وفية قدر الإمكان للواقع التاريخي المسرود، وفي استحضار روح تلك الحقبة وغناها الثقافي، مسائلةً بشكل خاص أسباب تعلّق الكثيرين في منطقتنا آنذاك بعقيدة القرامطة الطوباوية، كالتوق إلى المساواة والكرامة، لكن من دون إهمال حدود تلك التجربة الراديكالية في تطوير المجتمعات العربية الإسلامية.

وفي هذا السياق، تبيّن اللّعبي الاختلاف الكبير بين حُكم أبو سعيد الذي قام على الشورى، وحُكم ابنه سليمان الذي فرض نفسه قائداً عسكرياً ولم يتوان عن قتل آلاف الأبرياء خلال حملاته العسكرية في منطقة البصرة ومكّة، قبل أن تضلله شخصية دموية أصفهانية اعتقد أنها "المهدي المنتظَر".

ولدى قراءة هذا النصّ، يتجلّى لنا البحث الجبار الذي قامت اللّعبي به داخل الوثائق والمراجع بهدف استخلاص حبكة روايتها. بحثٌ دام سنواتٍ سمح لها بإعادة تشكيل ملحمة القرامطة بآمالها وأوهامها، بصعودها وسقوطها، كما سمح لها بإعادة إحياء القرن العاشر الميلادي وطبيعة الحياة خلاله، إن في الواحات أو في الصحراء مع قوافل البدو، أو في كواليس بغداد المخملية.

لكن أهمية الرواية لا تكمن فقط في بُعدها التوثيقي، بل أيضاً في براعة الروائية في رسم الشخصيات التي تجسّد جيداً هذه الملحمة: أبو الفتح الذي يرمز بتأريخه الموضوعي لتلك المرحلة إلى عدم تبدّل الزمن وعدم انحيازه؛ "ولد" الذي سيكتشف بعد حميّة الشباب الحكمة النابعة من واقع الحياة؛ زعماء القضية القرمطية مثل أبو سعيد وابنه سليمان؛ والمحاربتان وردة ورباب اللتان تمثّلان شغف القرامطة بالمساواة وعدم خضوعهم للسلطة التقليدية.

ومع أن "مهرطقون" أشبه بجدارية تاريخية، إلا أن بنيتها تسجّل قطيعة مع الإطار المعتاد للرواية التاريخية، بفصولها القصيرة التي لا تتجاوز أحياناً الصفحة الواحدة، أو بعملية سردها غير الخطوطية التي تستخدم اللّعبي فيها بشكلٍ ثابت تقنية القطع، وتنوِّع إيقاعاتها بمهارة، فتمدّ أو تشدّ السرد لتسطير مشهدٍ أو حوارٍ أو انطباعٍ يتملّك إحدى شخصياتها.

تقنيات تفسّر بدون شك المتعة الكبيرة التي نشعر بها لدى قراءة روايتها التي تستحضر إلى أذهاننا السرد العربي والمشرقي القيم بحكاياته الغزيرة المتشابكة واستعاراتها وحِكَمها وأمثالها وقصائدها؛ كما لو أن القرن العاشر لا يحضر فقط بمضمونه وإنما بأشكاله السردية أيضاً.

دلالات
المساهمون