كوادر الأردن الطبية... عندما يتحوّل المنقذ إلى ضحية

16 يونيو 2019
هو وزملاؤه مهدّدون في أقسام الإسعاف والطوارئ (Getty)
+ الخط -

تتكرر في الأردن حوادث الاعتداء على الأطباء والعاملين في المجال الصحي عموماً، الأمر الذي يخلّف استهجاناً لدى فئات المجتمع المختلفة وكذلك في الأوساط الرسمية

أنهت تفاهمات عشائرية قضية الاعتداء الأخير على كوادر طبية في الأردن، والذي وقع في مايو/ أيار الماضي، والذي استهدف الطبيبة الجرّاحة، الدكتورة روان سامي، في مستشفى الأمير حمزة، وسط العاصمة عمّان. ولعلّ الاهتمام الذي حظي به ذلك الاعتداء، بخلاف عشرات اعتداءات أخرى طاولت كوادر طبيبة، هو أنّه طاول امرأة وليس رجلاً، فصار بالتالي حديث الأردنيين. وكانت الطبيبة الشابة قد تلقّت لكمة على وجهها أدّت إلى كسر أنفها مع نزيف داخلي، على يد أحد مرافقي مريض كان يتلقّى علاجه في مستشفى الأمير حمزة حيث تُعَدّ سامي طبيبة مقيمة. وقبل أيام، تقدّمت بطلب أمام المحكمة المعنية لإخلاء سبيل المُعتدي عليها، وذلك على أثر منشورات وتصريحات أجّجت عواطف الأردنيين. وشرحت سامي أنّ طلب إخلاء سبيل المعتدي عليها جاء لأنّه المعيل الوحيد لعائلته، علماً أنّ ذوي الشاب وجّهوا رسالة إلى الضحية قدّموا فيها اعتذارهم عمّا بدر من ابنهم.

هذه الحادثة هي واحدة من عشرات حوادث الاعتداء التي تقع سنوياً مستهدفة كوادر طبية وصحية في الأردن، مع العلم أنّ تلك القضايا كلها - إلا ما ندر - تنتهي بصلح عشائري. وهكذا توضع القوانين جانباً، ومثلما يقال باللهجة المحلية تنتهي القضايا بـ"فنجان قهوة" يشربه وجهاء العشائر في خلال زيارة إلى مضارب الضحية. ويُعرف ذلك بـ"الجاهة" التي يتمّ اللجوء إليها بهدف حلّ الخلافات وكذلك عقبات كثيرة في أكثر من مجال، من خلال الضغوطات العشائرية.

النقاش العام الذي دار حول قضية الطبيبة روان سامي منذ لحظة وقوع الاعتداء حتى ما بعد التنازل عن حقّها وإطلاق سراح المعتدي عليه، خلّف نوعَين من التفاعل. الأوّل متعاطف مع الطبيبة، كونها امرأة تعرّضت للاعتداء وهي تقدّم خدمة طبية إلى المواطنين، أمّا التفاعل الثاني فراح يبرر الاعتداء كردّ فعل طبيعي إزاء تردّي الخدمات الصحية الحكومية والتعامل غير الودّي لبعض الأطباء مع المراجعين. لكنّ حوادث مماثلة سجّلت في مرّات عدّة في مستشفيات خاصة وليس فقط حكومية. ويبقى المهمّ في الأخيرة أنّها سلّطت الضوء مجدداً على تلك الاعتداءات التي تحوّلت إلى ظاهرة عامة باتت تقلق الجسم الطبي، فيما دفعت الأطباء إلى الطلب من الجهات المعنية، وفي مقدمتها وزارة الصحة، ضرورة تفعيل القوانين مرعيّة الإجراء لحماية الأطباء في أثناء قيامهم بواجبهم.

يقول طبيب في قسم الإسعاف والطوارئ بأحد مستشفيات الأطراف لـ"العربي الجديد"، وقد فضّل عدم الكشف عن هويته، إنّ "كثيرين من مراجعي قسم الإسعاف والطوارئ يصطحبون معهم عدداً كبيراً من المرافقين، ما يؤدّي إلى اكتظاظ أقسام الطوارئ وإعاقة سير العمل بالإضافة إلى التدخّل في الرأي الطبي. كذلك فإنّ كل مراجع يعدّ حالته أولوية ويطالب بتلقّي العلاج قبل الآخرين، لا سيّما مع انتشار ثقافة خذ ما تريد برفع الصوت والاحتجاج". يضيف الطبيب نفسه أنّ "الاعتداء على الأطباء أمر متكرّر، لكنّه في أحيان كثيرة يبقى في إطار الاعتداء اللفظي ولا يصل إلى حدّ الاعتداء الجسدي"، لافتاً إلى أنّ "الأطباء يحاولون استيعاب المرافقين والمراجعين قدر المستطاع لتجنّب وقوع مشكلات في مكان العمل". يُذكر أنّ نقيب الأطباء الأردنيين علي العبوس وصف في خلال تصريح صحافي أخير الاعتداء على الأطباء بأنّه "ظاهرة مجتمعية حكومية إعلامية بامتياز"، مشيراً إلى أنّ "النقابة تقدّمت بقوة بمشروع ناجح لمنع هذه الآفة المدمّرة كاد أن ينجح".



عوامل خطورة بالجملة

في السياق، يقول مستشار الطبّ الشرعي والخبير لدى الأمم المتحدة في قضايا مواجهة العنف، الدكتور هاني جهشان لـ"العربي الجديد"، إنّ "استمرار العنف ضد أطباء وزارة الصحة هو مؤشّر خطير إلى فشل كل المحاولات السابقة للتعامل مع هذه الظاهرة، والتي كانت تقوم على محاولات لتشديد العقوبة". يضيف أنّ "الاستجابات السابقة لم تكن ناجعة، بل تفاقمت الاعتداءات"، مؤكداً أنّه "من غير المتوقع تخفيض نسبة شيوع العنف ضدّ أطباء وزارة الصحة بتشديد العقوبة على المعتدي من دون التعامل مع جذور هذا الشكل من العنف". ويشرح جهشان أنّ "العلاقة بين الطبيب ومرتكب العنف في حقّه ليست علاقة شخصية بل علاقة مهنية قائمة على التعريف القانوني المهني للعلاقة بين الطبيب والمريض. هي عقد قانوني عرفي يُعقد برضى المريض أو وليّ أمره ورضى الطبيب، بوجود أو عدم وجود منشأة صحية يعمل فيها الطبيب".

ويتابع جهشان أنّه "من خلال تطبيق النموذج البيئي لمنظمة الصحة العالمية المتعلق بجذور العنف على ظاهرة العنف ضد الأطباء، يتبيّن أنّ الجذور تأتي في ثلاث مجموعات من عوامل الخطورة تتقاطع مع بعضها البعض وتتعاضد لتؤدّي إلى حدوث العنف. فنجد عوامل الخطورة التي تتعلق بالفرد والعلاقات الإنسانية، وعوامل الخطورة المتعلقة ببيئة العمل غير القياسية وغير الآمنة، وعوامل الخطورة المتعلقة بالصورة النمطية السلبية السائدة في المجتمع حول خدمات وزارة الصحة". ويشدد جهشان على أنّ "ضعف أو غياب قدرة الطبيب على التواصل مع المرضى بالطريقة المناسبة، وسرعة التوتر والغضب لدى بعض الأطباء، وعدم التزام طرفَي العلاقة (المريض أو من يمثله والطبيب) بالمرجعية القانونية والأخلاقية للخدمة الصحية، أمور تؤدّي إلى تفاقم الظاهرة".

ويتحدّث جهشان عن "اكتظاظ العيادات بالمراجعين وعدم كفاية مساحات العيادات وعدم كفاية الأسرة، واكتظاظ أقسام الطوارئ وعدم كفاية الكادر، وعدم كفاية كادر الأمن والشرطة، كل ذلك يساهم في انتقال العنف الفردي أو الجماعي من الخارج إلى المستشفى". ويشير إلى أنّ "الصورة النمطية المتعلقة بضعف خدمات وزارة الصحة تؤدّي إلى فقدان ثقة المواطن بالطبيب العامل في وزارة الصحة، وكذلك بمجمل الخدمات التي تقدّمها الوزارة. ويشكّل فقدان الثقة هذا أرضيّة خصبة للتوتر لدى الطبيب والمريض على حدّ سواء، وبالتالي زيادة احتمال حصول العنف ضدّ الأطباء".

الاعتداء محتمل وسط الفوضى والارتباك (Getty)


ضغوط عشائرية

من جهته، يقول المسؤول عن ملفّ الاعتداءات في نقابة الأطباء الأردنيين، عضو مجلس النقابة، الدكتور هشام الفتياني، لـ"العربي الجديد"، إنّ "الاعتداء على الأطباء في الأردن ظاهرة تأتي على خلفية التعبئة السلبية ضدّ الأطباء وترتبط بعدم رضى المواطنين عن الخدمات المقدّمة لهم. وهذا أمر يرتبط أحياناً بحنق عام تجاه الحكومة ومؤسساتها والخدمات التي تقدّمها، ويكون الطبيب في معظم الأحيان ضحية ذلك الاحتقان والسخط إزاء الحكومة من قبل البعض". ويضيف الفتياني أنّ "الأطباء يقضون أوقاتاً طويلة في عملهم ليقدّموا الخدمة لمن يحتاجها، إلا أنّ ذلك لا يشفع لهم"، مشيراً إلى أنّ "في شهر رمضان المنصرم وحده سُجّلت 13 حالة اعتداء على الكوادر الصحية والطبية".

وعن تنازل الأطباء بمعظمهم عن القضايا التي يرفعونها ضدّ المعتدين عليهم، يشرح الفتياني أنّ "هؤلاء الأطباء يقعون غالباً تحت ضغط العشائر، وفي أحيان أخرى يتنازلون بسبب الإجراءات. فكثيرون منهم يتجنبون التقاضي الذي يتطلّب وقتاً وجهداً ومالاً". ويتابع أنّه "بعيداً عن الأرقام المسجّلة حول الاعتداء على الأطباء، ثمّة عشرات الحالات التي لا تقيّد رسمياً في النقابة ولا يتم التبلیغ عنھا لأسباب اجتماعیة وأخرى تتعلق بسلامة الطبیب وأمنه". ويؤكّد الفتياني أنّ "الطبيب المعتدى عليه يتعرّض بشكل كبير لضغوطات عشائرية وتدخلات من قبل أشخاص ذوي مكانة، تطالبه بالتنازل عن الشكوى. وهذا ما يجعله في موقف حرج. كذلك فإنّ متابعة الطبيب لشكواه تتطلب منه ترك عمله وطلب إجازات كثيرة يصعب أحياناً الحصول عليها، بهدف حضور جلسات المحاكم. كلّ ذلك يجعل الطبيب يتنازل عن حقه الشخصي، وهذا ما يفسّر تزايد الاعتداءات بصورة لافتة".

ويطالب الفتياني بـ"حملة وطنية لمواجهة الاعتداءات على الكوادر الطبية والصحية، فنحن في حاجة إلى مبادرات وطنية عامة للتوعية حول دور الأطباء وبيئة العمل بمشاركة المواطنين ومؤسسات المجتمع المدني والجهات الرسمية المعنية". ويلفت إلى أنّ "الاعتداءات تقع في القطاعَين العام والخاص. في العادة، تكون في القطاع الخاص على خلفية الفاتورة، أمّا في القطاع العام فترتبط بالخدمة، من قبيل توفّر سرير أو دواء أو تأخير ما"، مشدداً على "تكثيف الحضور الأمني في المستشفيات، والعمل مع الإعلام ومؤسسات المجتمع المدني بهدف الحثّ على وقف هذا العنف المجتمعي".



ليس "ظاهرة"

"الاعتداء على الكوادر الطبية والصحية أمر مرفوض رفضاً تاماً"، بحسب ما يشدّد المتحدث باسم وزارة الصحة الأردنية حاتم الأزرعي لـ"العربي الجديد"، مضيفاً أنّ ذلك "مدان من قبل كل الأطراف، أي وزارة الصحة والنقابات والمجتمع عموماً". ويقول الأزرعي إنّ "الاعتداء على الأطباء في ظاهره يبدو كظاهرة كبرى، لا سيّما أنّ القضية تحظى باهتمام أكبر من قبل الرأي العام عند وقوع حوادث متكررة في فترة زمنية قصيرة ومع التركيز الإعلامي عليها وكذلك تركيز وسائل التواصل الاجتماعي". لكنّه يؤكد أنّ "الاعتداء على الأطباء لم يصل إلى مستوى يسمح بتصنيفه كظاهرة"، شارحاً أنّه "في حال قورن عدد حالات الاعتداء مع أعداد المراجعين الكبيرة في المستشفيات والمراكز الصحية التي تُقدّر بالآلاف، فسوف نجد أن اعتداءً يقع بين فترة وأخرى". ويلفت الأزرعي إلى أنّ "الاهتمام الإعلامي أمر أساسي من شأنه أن يرفع مستوى وعي المجتمع حول مثل تلك القضايا ويساهم في الحدّ من تلك الاعتداءات التي تستهدف أشخاصاً يقدّمون خدمة عامة للمواطنين جميعاً".

ويكشف الأزرعي أنّ "62 اعتداءً سُجّلت في عام 2017، فيما ارتفع الرقم في عام 2018 إلى 79 اعتداءً"، مؤكداً أنّ "الوزارة عمدت إلى إجراءات مختلفة على مدى الأعوام الماضية بهدف الحدّ من الاعتداءات على الكوادر". ويشير إلى أنّ "90 في المائة من الاعتداءات تقع في أقسام الإسعاف والطوارئ، أمّا الأسباب فتتعدد، ومنها الحالة الصحية للمراجع وعدد المرافقين الكبير. لذلك عملت وزارة الصحة في خلال الأعوام الماضية على توسيع أقسام الإسعاف والطوارئ في مختلف مستشفيات الأردن". ويوضح أنّ "حالات الذين يقصدون أقسام الإسعاف والطوارئ تكون حساسة، والذين يرافقونهم يكونون قلقين ومتوترين ومستفزّين، ووجودهم في أماكن الفحص الطبي يعرقل عملية الإسعاف. لذا حاولت الوزارة جعل أماكن الانتظار بعيدة عن أماكن تقديم الخدمة الطبية".

ويكمل الأزرعي أنّ "الوزارة عملت على وضع آلية لتصنيف الحالات فتُعطى الأولوية للحالات التي تحتاج إلى علاج سريع. كذلك تُنظَّم ورش توعوية ومحاضرات ودورات تثقيف للعاملين في أقسام الطوارئ والإسعاف، حول كيفية التعامل مع المرضى، مع التركيز على كيفية امتصاص غضب المراجعين". بالنسبة إلى الأزرعي فإنّه "من غير الممكن فصل رجل أمن لمرافقة كلّ طبيب أو مراجع، بهدف منع الاعتداء على الكوادر. لكنّها تسعى إلى تعزيز الوجود الأمني في المستشفيات، خصوصاً في الأقسام الساخنة مثل الإسعاف والطوارئ". وإذ يؤكّد أنّ "القانون ينصّ على عقوبات رادعة"، يقول إنّ "المشكلة تكمن في إسقاط الكوادر حقّهم الشخصي، وعند التنازل تخفّف العقوبة. لذلك يُستسهَل الاعتداء على الكوادر الطبية".