صوت أم مصطفى

06 مارس 2016
رحلت عن الحياة قبل يومين (Getty)
+ الخط -

لا يمكن التفكير بصورة جارتي أم مصطفى من دون أن يحضر صوتها الغليظ والقوي. وصوت السيدة العجوز ذات الوجنتين الممتلئتين ليس إلا بعض شخصيتها القوية التي اعتمدت عليها في تربية ولديها الشابين بعد أن خذلت الحياة والدهما فودّعها باكراً.

اعتمدت أم مصطفى على نفسها في تربية الشابين. لا نعرف من أين اكتسبت هذه الشخصية القوية التي كانت تدفع بالجميع، رجالاً ونساءً، لتقديم المحبة والاحترام لها. صحيح أن حركة جسدها صارت بطيئة جداً في آخر أيامها، غير أن هذا لم يحجب هالةً سحريةً ظلّت تحيط بها كلما كانت خارجة أو عائدة إلى البناء لتشتري حاجيات منزلها، على ما فعلت دوماً، حتى لو اضطرت إلى صعود الدرج لتصل بيتها في الطبقة الخامسة منقطعة النفس ولاعنةً شركة الكهرباء.

ولأم مصطفى، على رغم هذه الهالة، قلبٌ يشبه قلب الأطفال. فإذا مرّت بمجموعة منهم كانت تلعب كرة القدم في مدخل البناء، وقفت تتحرّى عنهم وعن أهلهم لإرسال السلام لهم. ولطالما تصرّفت مع الصغار كأنها واحدة منهم.

ذات مرة، بينما كانت تنزل درجات البناء، كانت جارة أخرى تصعد درجاته. ويبدو أن سارقاً مشى خلف الجارة ولحق بها إلى البناء، من دون أن تنتبه، كي يسرق سلسلة ذهبية كانت تعلّقها في عنقها. وفي اللحظة التي التقت فيها أم مصطفى بالجارة عند الدرجات العشر التي تصل بين الطابقين الأول والثاني، وجهاً لوجه، كان اللص قد صار خلف الجارة مباشرة، فانتزع السلسلة بيده من الخلف وشدّها حتى انقطعت، ثم هرب بها بعدما كاد يخنق المسكينة.

وقع المشهد كلّه أمام عيني أم مصطفى، التي أمسكت أعصابها في هذه اللحظة الخطيرة وأطلقت العنان لصوتها القوي مناديةً على ابنها الأصغر، أسامة، وصارخةً من ملء قلبها: حرامي!

ولأن لأم مصطفى صوتاً يسبق المنبّه بالوصول إلى آذان الجيران، فليس من المبالغة القول إنه وصل للنسبة الأكبر من بينهم. تراكض الشبان والرجال داخل البناء، ولحقوا باللص حتى قبضوا عليه وسلّموه للشرطة. كان لصوت أم مصطفى الفضل الرئيسي في ذلك. ولعلّ اللص، مثل كثيرين، لن ينسى وقع هذا الصوت بقية حياته بعدما ساهم بسوقه إلى الزنزانة وإفشال جريمته.

رحلت أم مصطفى عن الحياة قبل يومين. هي لا شك من نوع الناس الذي يترك غيابه فراغاً واضحاً في عائلته ومحيطه. رحلت من دون أن تسمع ربما باليوم العالمي للمرأة، وبمسائل وحقوق تناضل النساء من أجلها في كل مكان. ولعلّها حتى لو علمت بها ما كانت لتهتم بذلك. فقد حدّدت قضاياها بنفسها وانطلقت وحيدة لتدافع عنها. وسيذكر الجيران دوماً صوتها القوي وشجاعتها في الدفاع عن جارتها. وسيقولون دائماً إن صوت امرأةٍ واحدة تغلّب على لصٍّ بعضلات.

اقرأ أيضاً: الفساد الذي يأكل رؤوسنا
المساهمون