قهوةٌ قبل الأوان

06 يونيو 2015
شربت القهوة ووضعت حذاءها على الكنبة (Getty)
+ الخط -

كبرَت اليوم. في الماضي، قيل لها إنها ربما تنال حرّيتها عندما تكبر. لم تنسَ الوعد. تُطفئ شموعاً تلو الأخرى ولا يتغيّر شيء. يُخيفها عمرها الذي ينذر بنُضجٍ لا حرّية فيه. كانت صغيرة حين عرفت أنها ستضع أحمر الشفاه وترتدي الكعب العالي وتشرب القهوة في وقت لاحق. وهي ظلّت تنتظر هذه اللحظة التي ستحرّرها من طفولتها، تلك التي ظنت أنها مرحلة أسرها.

لم تعرف أنها لم تكن حرّة. معظم الأمهات يمنعن أطفالهن من شرب القهوة حفاظاً على صحتهم. هذا عادي. كانت تودّ أن تخالف والدتها هذه القواعد الصارمة، وتغمّس البسكويت في القهوة، وتعطيها إياه. حسناً هي لن تشرب القهوة من الفنجان، لكن لا مانع من كذبة بيضاء.
ماذا قد يحصل لو استلقت على الكنبة قبل أن تخلع حذاءها؟ ربما تتسّخ. أما إذا كان لون القماش داكناً، فلن يظهر أي أثر للجريمة. لكنها لا تفعل. اعتادت استباق الأحداث. وهذه حرية مؤجلة أيضاً. ربما تضع حذاءها حين تكبر، وتخجل والدتها من الصراخ في وجه صبية. لم تكن تعرف أن الوقت يسرق حلاوة الأشياء.

حين كبرَت، صارت تُرجئ أموراً أخرى إلى سنوات أخرى. كأنها في حالة جري دائمة خلف الحرية. هي نفسها، تقذفها إلى أمكنة بعيدة، بينما كان يمكنها الإمساك بها. وفي منتصف العمر، تضيع. عن أي حرّية تبحث؟ تلك التي تركتها في الماضي، أو التي جلبتها معها إلى الحاضر، أو التي أرجأتها إلى المستقبل؟ هل الناسُ أحرارٌ في حاضرهم؟

لو كان حرّاً، لما عمل سائقاً لسيارة الأجرة، واختار رقص الدبكة في إحدى الفرق اللبنانية. لو
كانت حرّة، لنظرت إليه وأخبرته بأنه يعجبها. ولو كان حرّاً، لما اعتبر جرأتها ضعفاً وحاول استغلالها.
نُخفي أسرنا خلف شعارات كبرى، أو نتطرّف فنركض عراة في الطرقات. نريدُ أن ينظر الجميع إلينا، وأن يحملوا كاميراتهم ويلتقطوا الصور لنا. ما علينا إلا أن نبتسم.
في الظلام، شربَت القهوة ووضعت حذاءها على الكنبة. أرادت فعل المزيد. أشعلت سيجارة وثانية وثالثة. قهقهت وحيدة. لكن العالم كان يسمعها. سمعت صداه في أذنيها. العالم كلّه يقهقه وقد صار حرّاً. في تلك اللحظة، خرج من سيارة التاكسي وراح يرقصُ الدبكة. أما هي، فأخبرته بأنه يعجبها واكتفى بابتسامة. لم تكن تريد منه أكثر من ذلك.

قصيرةٌ كانت هذه اللحظات. عاد العالم إلى أسره. اعتدنا الخوف من أنفسنا. نرجئ تفاصيل تجعلنا أحراراً، خوفاً من منظومة رتّبتنا على هواها، وربّتنا على التأجيل. الحرّية حينَ تؤخذ في غير وقتها، منقوصة بلا شك.

اقرأ أيضاً: عقدٌ من الغاردينيا
المساهمون