أم كلثوم "تُجلَد" في الموصل

26 يونيو 2016
من المشاهد التي اختفت نهائياً في أسواق الموصل(فرانس برس)
+ الخط -

بعد مرور عامين على فرض تنظيم "داعش" سيطرته على مدينة الموصل، شمال العراق، يبدو أنّ أموراً كثيرة تغيرت في المدينة وأجبرت سكانها على ترك عاداتهم.

لم يعد أهل الموصل يعرفون مدينتهم. فلا العادات عاداتهم ولا المهن مهنهم، ومن يخالف يلقَ جزاءه جلداً وحبساً وربما قتلاً. مهن عديدة لم يعد لها وجود في المدينة الواقعة في شمال العراق. فهي مهن مصنّفة كـ"محرّمة"، ومصير أصحابها القتل إن عادوا إلى مزاولتها. حتى الكلام اليومي الشائع والعبارات المعتادة بات منها ما هو ممنوع أيضاً. والعقوبة جاهزة دائماً بحسب المخالفة.

مع ذلك، ما زالت بعض التقاليد واليوميات المعروفة تشاهد في المدينة، فالمسموح والممنوع منوطان بفتاوى التحريم الصادرة عن تنظيم "داعش" وحده، وهو أيضاً من يعاقب المخالف وفقاً لدرجة "جرمية" فعله، الذي قد تصل عقوبته إلى الإعدام.

بناءً على مشاهد تبثها مواقع إلكترونية موالية لتنظيم "داعش" وشهادات بعض سكان المدينة، اختفت الإعلانات الملونة التي تضم صوراً لأشخاص من الطرقات، وخلت المدينة من نساء يرتدين الملابس الحديثة التصميم. كذلك اختفت المحلات التي تبيع تلك الملابس. جميع النساء بتن منقبات، والنقاب والعباءات النسائية الفضفاضة صارت تجارة مربحة. وبذلك، تنتشر محال خياطة تعلن في واجهتها أنها تختص بخياطة العباءة والنقاب. وهو ما لم يكن يوماً قبل احتلال التنظيم للمدينة.

من جهته، يروي سعد الحمداني الذي كان يملك متجراً واسعاً لمواد التجميل النسائية أنّ "الموصل تحولت من الألوان الزاهية إلى الأسود والأبيض". يضيف لـ"العربي الجديد" أنّ "المدينة أصبحت مشوهة، بلا ملامح.. لقد سلب داعش كلّ شيء جميل منها".

الحمداني تمكن من الخروج من الموصل، منذ نحو عام، بعد دفعه مبلغاً من المال (5 آلاف دولار) لمقاتل في التنظيم كي يساعده على الهرب. هو الآن يعيش في مدينة أربيل عاصمة إقليم كردستان، شمال العراق. يقول إنّ "كثيراً من العادات تغيرت، وإن لم تُسترجع الموصل سينشأ جيل لا يعرف شيئاً عن تقاليد مدينته وأهلها".

كثير من أهالي الموصل هربوا من مدينتهم، مؤكدين أنّهم لم يعودوا يطيقون العيش فيها بعدما غيّر "داعش" أغلب معالمها وعاداتها وطقوسها. وبحسب قولهم فإنّ تحية "الله بالخير" المعتادة تعتبر مخالفة شرعية، تستوجب السجن أو الجلد بحسب ما يقرر القاضي. ومن المعروف أنّ التحية العراقية اختصار لعبارتي "صبحك الله بالخير" و"مساك الله بالخير"، ويعتبرها "داعش" من البدع التي ينهى عن قولها، لذلك لم يعد الناس يسمعونها في مجالسهم.




الموصل عرفت بعدد كبير من الفنانين في مختلف أشكال الفن. كانت المعارض والندوات والنقاشات الفنية تقام فيها باستمرار في منتديات ومواقع مختلفة. كما تنتشر اللوحات في محال متخصصة. ويعرف عن الفرق الموسيقية العديدة في المدينة عراقتها، لاسيما فرق المقام والموشحات التي تتميز بها الموصل.

اختفت كلّ هذه الفنون وباتت من المحرّمات الشرعية التي توجب العقاب. وبتحريم الموسيقى، اختلف الاحتفال بالمناسبات السعيدة، فحفلات الزواج والختان والتخرج وغيرها لم تعد تقترن بالموسيقى كما كان في السابق. العرس نفسه بات عبارة عن زفاف ينطلق من بيت العروس إلى بيت العريس في سيارات يسمح لها فقط بإطلاق أبواقها للتعبير عن الفرح.

يقول كامل مطيع، وهو أحد الهاربين من الموصل، إنّ من "بين سكان المدينة من يعشق الموصل إلى حدّ الجنون، لاسيما كبار السن"، مشيراً إلى أنّ "بعضهم ماتوا بالسكتة القلبية، لأنّهم لم يطيقوا إجبارهم على التخلي عن عاداتهم". في حديثه إلى "العربي الجديد" يوضح تلك العادات: "منها الاستماع إلى أغاني المقام العراقي وقت جلوسهم في المقاهي، أو في جلسات سمر على ضفاف نهر دجلة، وقد منعوا منها، وحرموا من طقوسهم التي تعتبر جزءاً من حياتهم".

ما زالت الأسواق موجودة ولم يطرأ عليها تغيير، لكنّ بعض محالها تبدلت طبيعته. لم يعد هناك محال لبيع أقراص الأغاني والأفلام، وألغيت محال بيع الملابس النسائية ذات التصاميم الحديثة، كذلك صالونات تجميل النساء. ولا وجود أيضاً لمحال بيع السجائر والنراجيل ومستلزماتها.

مطاعم الأكلات الشعبية المشهورة ما زالت تفتح أبوابها. تفوح منها روائح، كالكبة المصلاوية والباجة والمسكوف والتشريب والمشاوي والقوزي والطرشي، فتذكّر بأيام جميلة كانت فيها الموصل تستقبل زائريها من باقي المحافظات للتمتع بأجوائها وأسواقها ومأكولاتها.

وعلى الرغم من كلّ شيء، يؤكد أهالي الموصل أنّ العادات الاجتماعية لا يمكن أن تزول مهما كانت الأسباب. يقول الحاج أبو خالد في اتصال عبر الإنترنت، لـ"العربي الجديد" إنّ "العائلات الموصلية تخرج إلى المتنزهات والأماكن العامة. لا يعني حكم التنظيم الصارم أن نسجن أنفسنا. لكننا بالتأكيد لسنا سعداء بوجوده، لقد سلبنا حريتنا وكثيراً من حقوقنا، فأنا أستمع بالخفية إلى مطربين أحب سماعهم منذ طفولتي". لكنّه يعقب: "كنت ذات يوم أستمع إلى إحدى أغاني أم كلثوم عبر مسجل سيارتي وأنا عائد من زيارة صديق. لم أنتبه، ولدى مروري بدورية لداعش، كانت عقوبتي الجلد والحبس".