غفوة ما بعد الظهر

17 أكتوبر 2015
مرّ وقتٌ طويل قبل أن يلتقوا (Getty)
+ الخط -

نسمات عليلة ليست باردة ولا هي قاسية. تجعلك هادئاً ترغب في غفوةِ ما بعد الظهر، تلك التي تكون قادراً فيها على معرفة ما يدور حولك فيما أنت نائم. مثل هذه النسمات هم الأصدقاء. رابطٌ خفي يجمعك بهم. كثرٌ هم. في الغالب، تنتظر الأزمات لتتأكد منهم ليس رغبة في اختبارهم، تريد فقط لابتسامة أن تملأ ثغرك. إنهم هنا حولك يسألون عنك. تغمرك العاطفة إلى حدّ تنسى المأساة.

لستَ وحيداً. أتراهم؟ لا يعرفون تفاصيل كثيرة عنك بالضرورة، سواء كنت تحبّ الألوان أم تفضّل أكلة بعينها. هذا مجرّد حب خالٍ من الأسباب والبراهين. هؤلاء مثل عازفين قادرين على العزف من دون نوتات. ما إن يلمسوا آلاتهم، حتى تخرج الموسيقى. طيّبون، وطباعهم أو أخطاؤهم قابلة لأن تغتفر. يُقال إنهم قلّة. الجدات يخبرن أن وجودهم صار نادراً في هذا الزمن. بالنسبة إليهن، الأمر يرتبط بالزمن. لكنّهم كثر حتى اليوم.

لطالما أخبروك أن تحذر منهم. تتفرّغ أحياناً لمراقبتهم ومقارنتهم بالآخرين. في النتيجة، هذا (الصديق) جيّد وذلك أيضاً. هو لئيم بعض الشيء لكنّه يعرف أن يقول إنه هنا، إلى جانبك. وإن أخبرته مرة خلال حديثٍ عابر أنك تحبّ الشوكولاتة المرّة، ربما يحضرها لك في مأساتك. وربما يجلب لك وردةً تلو الأخرى. لا يريدك أن تشهد موتها أو ترميها في سلة المهملات بعد أيام. لكثرة ما يحبك، يريدك أن تؤمن بالولادات.

خلال حرب لبنان، صودف أن جاءت الرومانية الشقراء وزوجها. لم تكن تفهم العربية. لكنها عرفت حين حدّقت في شفاههم، أنهم يختلقون قصصاً حولها. كان ذلك قبل ثلاثين عاماً. صدف أيضاً أن احتمت في شقة في أحد المباني في الجنوب. هناك تعرفت إلى صديقة علّمتها العربية والطهو. كثيراً ما كانت تشتهي تناول البطاطس المقلية التي تعدّها. تأخذ الصحن إلى بيتها من دون ذلك الإحساس بـ "الجميل"، ومن دون إفراط في الشكر. هذا مطلق في عفوية تأتي بعد حب.

مرّ وقتٌ طويل قبل أن يلتقيا. بدّل الوقت ملامحهما. تعانقتا طويلاً وتذكّرتا البطاطس المقلية. ضحكتا من شدة الحب. المأساة لا تمحى، لكن الحب يبلسمها. هما صديقتان لا تعرفان إلا أن الأطفال كبروا. لا تفاصيل أو يوميات تجمعهما. ثمّة ما هو أكبر بكثير. عرفتاه وحدهما.

لا علاقة للزمن بهم. ستجدهم في كل زمن، حتى في ذلك الذي ستقلّ فيه اللقاءات الشخصية. سيقولون إنهم هنا. لن تهين عليهم دموعك. ليسوا ملائكة ولم يهبطوا من السماء. خرجوا من الأرحامٍ مثلك. والأرحام لا تُخرج أشخاصاً بلا شوائب. قلوبهم بيضاء قادرة على فتح ذراعيها من دون كلام. كأنهم يشتهون البطاطس المقلية ويأكلونها.

اقرأ أيضاً: صار لك بحر
المساهمون