أمهات بمواجهة أمهات

21 مارس 2018
لحظة حب (لؤي بشارة/ فرانس برس)
+ الخط -

اليوم عيد الأمهات. في هذا اليوم تقدّم الورود وقوالب الحلوى والهدايا. لكن بعيداً عن الطابع الاستهلاكي للمناسبة، تعيش أمهات اليوم صراعاً صعباً. أين مساحتهن في هذا المجتمع المتغيّر؟ وهل هنّ مقصرات وسط أدوار كثيرة يتحمّلن مسؤوليتها؟ 

الجميل وردّ الجميل، عبارةٌ حكمت العلاقة بين الأمهات والأبناء لوقت طويل، وأثّرت في جيل جديد من الأمهات. هنّ اللواتي أُلصقت بهن صفات التضحية والإحاطة وغيرهما لمّا قدّمنه ويقدمنه للأولاد، وللأحفاد من بعدهم. والتضحية في الماضي كانت تحصر المرأة في دورٍ واحد فقط، هو الأمومة. وهي نفسها اليوم، ترفض تأدية دور الراعي فقط، ليس انتقاصاً منه بل بحثاً عن إعلاء شأنها. معظم الأمهات اليوم بتن على قناعة بأن أدوارهن تفوق الجانب العاطفي.

يستيقظن من أجل أطفالهن ويستيقظن من أجل الذهاب إلى أعمالهن. ويبدو أنّ بين جيلين من الأمهات ثغرات لم تتضح معالمها بعد. بالأمس عرفت الكثيرات منهن الأمومة دون غيرها، واليوم تبحث الأمهات عن ذواتهن بين جميع الأدوار. في إصرار بعض النساء على رفض تعلّم الطهو على سبيل المثال، انتفاضة على أدوار موروثة، وإن كانت هذه "الثورة" لا تستمر حين يصبحن أمهات.

أن تتّهم أمهات من الأجيال السابقة بعض أمهات اليوم بالتقصير حيال الأبناء، واكتسابهن صفة الأنانية بدلاً من التضحية، ربما ليس هذا سيئاً بالضرورة، حتى بالنسبة إليهن. كأنّ التقصير "مبرّر". إحدى الأمهات الستينيات، وتُدعى حنان، تتحدّث عن نسبة كبيرة من الأمهات المقصّرات اليوم. لا تملك أرقاماً، بل تُلاحظ اعتماد كثيرات منهن على العاملة المنزلية، حتى بات مألوفاً أن تتولى الأخيرة مرافقة الطفل في أعياد الميلاد وإلى المنتزهات. صحيح أنها لا تنفي صفة الإهمال عن بعض الأمهات من الجيل القديم، "إلا أن نسبة كبيرة كنّ أكثر اهتماماً بأطفالهن وعائلاتهن. المحبة ليست سمة الأمهات فحسب، بل المجتمع بأكمله. وكثيرات لا طاقة لهن اليوم على اللعب مع أطفالهن وتأمين احتياجاتهم، لأنّ حياتهن أهم من أي شيء آخر، كما أنّ الحياة فتحت أمام النساء مجالات لم تكن موجودة"، وإن كانت حنان تُدرك أن الحياة باتت أكثر صعوبة من ذي قبل.



من يحكم على من؟ يطلق كلّ جيل أحكامه على الآخر. وبعد، لا شيء غير محاولة إدراك للمتغيرات الاجتماعية، التي تعدّ النساء والأمهات جزءاً منها. بالنسبة إلى ندى (ثلاثينية)، لا يمكن المقارنة بين جيلين مختلفين. وحين تحكي عن الاختلاف، تتحدّث عن مجتمع يشهد تغيّرات جذرية اليوم، ولا بد أن تكون الأمهات جزءاً منه. في الوقت الحالي، تغيّر مفهوم التربية. تسأل: "ماذا يجب أن نقدّم لأطفالنا؟". ربّما لم يكن هذا السؤال ليطرح في بيوت كثيرة. تقول إن كلّ جيل هو على صواب في زمنه. ولا ترى أن والدتها تمثّل نموذج الأمّ الذي ترغب في أن تكونه، وإن نجحت في تربية أطفالها بشكل جيّد. إلا أن هذا "الجيّد" ليس ما تحلم به لأطفالها اليوم.

تتحدّث ندى عن وجود اختلاف كبير بين أمهات الجيل الجديد، على عكس أمهات الجيل السابق اللواتي كن يتشاركن مفهوماً متشابهاً للتربية. تقول: "همّ أمي كان إطعامنا وتأمين ثيابنا مع الحرص على نظافتنا. أما الأمور الأخرى، فيكتسبها الأطفال من الحياة. في الوقت الحالي، نطلب الكثير من أنفسنا بسبب شعورنا الدائم بالتقصير تجاه أولادنا. الأم العاملة اليوم تُدرك أنّها ليست موجودة دائماً مع طفلها، وتشعر أن عليها إعطاءه المزيد. لكن المزيد من ماذا؟ الحب يتفوّق على النظافة والنظام على سبيل المثال".

يستمر النقاش وصولاً إلى أمّ خمسينية تُدعى ماري. هي تصف جيلها من الأمهات بـ "الأصعب". تقول: "تربّينا على أن نهتم بأهلنا ونستمع إليهم ونؤمّن طلباتهم. تزوجنا في عمر مبكر ورزقنا بأطفال، وبتنا نربي أولادنا ونعمل خارج البيت وداخله لأن الرجل في مجتمعنا أناني. وبعد الانتهاء من دوام العمل، نفكّر في الأغراض التي يجب شراؤها، وبالطهو، وغير ذلك. بمعنى آخر، لا يعود لنا حياة. في الوقت الحالي، باتت الأم تفكّر في نفسها أكثر، وتسعى إلى تلبية احتياجاتها وليس احتياجات البيت فقط. وباتت أمها تتولى تأمين احتياجاتها وليس العكس".



تلاحظ ماري أن كثيرات اليوم لا يعرفن كيفية الاهتمام بأطفالهن. والسبب، كما تقول، هو أن "أمهات الجيل السابق، اللواتي ضحين كثيراً، شعرن أن تضحياتهن هذه كانت من دون مقابل، وبتن ينصحن بناتهن بالتفكير في أنفسهن. لكن الأم في حالة ضياع. من الجيد أن تفكر في نفسها، لكن يجب أن تترك مساحة أيضاً للتفكير بالآخرين". تضيف: "لم تعد الأم تعرف أين تكون، بين رغباتها وطموحاتها وبيتها وأطفالها".

رؤى، وهي أم ثلاثينية، ترى أنّ هذه المقارنة "كليشيه". تختصر الفرق بين الجيلين باختلاف مفهوم التضحية، بين أمّ لا تتوانى عن التخلّي عن كلّ شيء من أجل أطفالها، وأمّ تحب أطفالها ونفسها. والأخيرة تستعين بعلم النفس كي تؤكد هذه الفكرة "إذا كانت الأم سعيدة، يكون عطاؤها لأطفالها أفضل".

اليوم عيد الأمهات من مختلف الأجيال. أمهات يضحين ويصبرن ويخطئن ويغضبن ويعشقن. أمهات يحتجن من حين إلى آخر إلى الاستقالة من كل الصفات والمهام، لأنهن يتعبن أيضاً. أما الأحكام، فلا مفرّ منها.
المساهمون