فريدة بوشتى.. طبيبة مغربية تستنطق الموتى

22 يونيو 2016
بمشرطها تُعلي الحقيقة (العربي الجديد)
+ الخط -
اختارت الطبيبة المغربية فريدة بوشتى أن تعمل بين الأموات والثلاجات الباردة بدون أن يموت قلبها، قضت أكثر من 25 سنة بين الجثث تحاول فك ألغاز وفيات محيرة وتقدم إجابات كافية عن الحالات غير العادية والاعتداءات الجسدية والجنسية والتعذيب.

أتاح لها عملها اكتساب خبرات عميقة، وظفتها في تطوير أكبر مركز طب شرعي على الصعيد الأفريقي، وفي تنوير الرأي العام في جرائم القتل والاغتصاب والانتحار والتسمم، وتحديد طبيعة التهم الموجهة للمتهمين من طرف النيابة العامة أو تبرئتهم.

بمشرطها تُعلي من شأن الحقيقة، وبتقاريرها تنصف المظلوم، من دون أن يضعف قلبها أمام مشاهد الموت المتكررة والأشلاء والأجسام المتفحمة، يدق هاتفها بدون توقف، وساعات نومها قليلة، مرت على يدها الآلاف من الجثث لشخصيات من عالم السياسة والفن، تولت شق أجسادهم، إلا أن هذه المهنة لم تطمس معالم الأنثى والأم في الطبيبة التي تبدو هادئة، بل تتحول إلى إنسانة عاطفية حينما تحدثك عن وفيات الأطفال الذين تستقبلهم ولا تستطيع أن تحبس دموعها.

تقول بوشتى لـ"العربي الجديد"، إنها اختارت هذه المهنة بحب، واعتادت عليها بالرغم من صعوبتها والوقت الذي تستغرقه، بل إنها تستشعر حجم المسؤولية الملقاة على عاتقها، في كل القضايا والجثث التي تحال إلى المركز الذي ترأسه، وتصر على التدقيق في كل جزئية مهما بدت بسيطة، كل هذا للوصول إلى الحقيقة وخدمة العدالة، وهي رسالة ليست بالهيّنة.

رقة بوشتى ورهافة حسها، تجعل من يراها عاجزا أن يتخيلها تمسك مشرط التشريح وتنهال على الجثة فحصا وتنقيبا لمعرفة سبب الوفاة، أو أن تلج مسرح الجريمة، غير عابئة بالمخاطر المحدقة، في أي وقت طُلب منها ذلك، وتنصهر في أداء واجبها تاركة عناصر الشرطة ورجال الدرك والمساعدين مشدوهين لصلابة امرأة مثلها.

أعجبت فريدة منذ صباها بأفلام الرعب والقصص البوليسية، وكانت تهوى البحث عن الأدلة والبراهين المؤدية إلى كشف الحقيقة، تلقت تعليمها الأوليّ في الدار البيضاء (كبرى مدن المغرب)، وبعد حصولها على البكالوريا سافرت إلى فرنسا من أجل التحصيل العلمي، ثم عادت إلى الدار البيضاء لتتابع مسارها الجامعي، وتنقلت بين المدينة والعاصمة الإدارية الرباط إلى أن حصلت على دكتوراه في الطب سنة 1988.

عملت في البداية في مصلحة الطب الشرعي في مستشفى حكومي (عين الشق)، وبعد حضورها عملية تشريح إحدى الجثث، أثارت فضولها وجعلتها تحب هذا التخصص.


رغبة الطبيبة في تطوير خبراتها وإثبات مكانتها لم تجعلها تتوقف عند هذا الحد، بل حزمت حقائبها وعادت من جديد إلى فرنسا حيث التحقت بكلية "إنجي"، لتحصل على دبلوم الطب الشرعي سنة 1993، ثم عادت إلى مزاولة عملها في مصلحة الطب الشرعي بمستشفى عين الشق، قبل أن يتم إقفاله، لتلتحق بمركز الرحمة الذي ترأسه حتى الساعة، وهي من بين المغربيات الأوائل اللاتي خضن غمار التجربة.

يستعان بخبراتها لكشف غموض الجانب الطبي من القضايا المختلفة التي تعرض عليها من قبل القضاء، وتعتبر شاهدة فنية محايدة أمام الهيئة القضائية التي تقوم باستدعائها.

نجحت فريدة في استنطاق الجثث لتكتب تقارير ساهمت في قرارات القضاء والعدالة الجنائية لأكثر من 25 عاما، كانت بصماتها واضحة في وقائع وطنية كثيرة، كمحرقة روزامور (راح ضحيتها حوالي 55 عاملا وعاملة)، وانفجار بوركون، والعديد من الجرائم التي فكّت شفراتها، متسلحة بسنوات الخبرة الطويلة.

وبقدر ما كانت فريدة بوشتى تخط سنوات نجاحها في ميدان الطب الشرعي، كانت تؤسس في الوقت ذاته أسرتها الصغيرة، ورغم ما تتطلبه هذه المهنة من صبر وتضحيات، إلا أنها وكأي زوجة وأم، لم تهمل حياتها الأسرية، بل رزقت بابنتين، أكملتا تعليمهما، إحداهما سارت على درب والدتها، وهي طبيبة في العاصمة الرباط، فيما الثانية دخلت غمار الاقتصاد والأعمال بعد أن أنهت تعليمها في مجال الأعمال.

دلالات
المساهمون