موت أقل أو أكثر

15 ابريل 2018
لا بدّ من سلام ينهي القتل في سورية(عامر المحباني/الأناضول)
+ الخط -
الموت الكثير الذي يجتاح سورية بأبشع الصور، يبدو كأن معايير الحزن المعتاد لم تعد تناسبه. صادمٌ، يُفقد المشاعر بوصلتها، فنظن معه أن لا حزن لدينا على قياس الموت المفجع الذي نراه.

موت الأطفال، وقتل أسر بكاملها داخل البيوت، واللحاق بهم إلى داخل الأقبية حيث يحتمون من الشرّ، يغيّر منظومة الأحاسيس البشرية ويقلبها. فيبدو الحزن وحده شعوراً غير كاف، وحالة لا تتناسب مطلقاً مع ما يجري.

كمّ الموت الهائل والثقيل في سورية يجعل الميتات الأخرى أقل وطأة. نخال معه لوهلة أن الموت الطبيعي ما عاد يؤلم كما كان قبل المأساة السورية. أن يموت إنسان عزيز أو صديق في مكان آمن على فراشه له مفعول الجمرة التي تحرق مكانها، له نكهة الموت العادي الذي نتقبله ولو بعد حين. على عكس الموت المدوي الذي نشهد تفاصيله في الغوطة الشرقية ودوما، وما شهدناه قبلاً في حلب والرقة وغيرها. هو اجتياح ضار صوتاً وصورةً يقحمك بأشد تجارب الموت مأساويةً. هو اختبار قاسٍ، تسحبك مشاهد الهلع والرعب والألم وتحرق قلبك، وتتشبث بمخيلتك مهما أشحت النظر، وتجعلك تشم رائحة الموت وتتذوق طعمه، ويغرقك في سواد عظيم.

ومثلما بات عبور الأعياد يخجلنا، نستصغر أنفسنا لو ساورتنا رغبة في معايدة الآخرين ولو من باب الواجب، خوفاً من اقتراف ذنب الفرح وسط المآسي العامة. وكما نتكتم على مناسبات سعيدة تخصنا، حاملين لوماً دفيناً يؤنبنا لو جاهرنا بالحديث عنها. هكذا هو حالنا أمام الموت "الطبيعي" العادي الذي يبدو "نعمة" تستوجب الرضا والقبول وعدم الاعتراض، لأن الموت بسلام يصبح رحمة.

لكن يستحيل قبول استضعاف الناس العزّل بهذا القتل المعلن عن سابق تصور وتصميم. والعقل يبحث عاجزاً عن "منطق" يفسّر هذه الأحوال ويحللها، لكنه يتعطل في توليد القناعات بأن الموت حق. الموت الحق مختلف تماماً. أما هذا الموت المفتعل والقتل الصريح الذي يشظي الأجساد والنفوس والأوطان فلا عقل يقبله ولا منطق. والمفجع في هذا كله أن إدانة القاتل في نهاية المطاف أمر غير مؤكد، والاقتصاص منه مسألة لا يقررها المنطق بل السياسة والتسويات.

مشاعر الفقدان على موت متوقع ومنتظر لأحدهم حوّلها المشهد السوري اليومي إلى خسارة يمكن احتمالها. خسارة صار بالإمكان أن نقدرها بالكمّ، بأكثر وأقل، وتحولت إلى جداول إحصاء تخرج يومياً على الملأ لتقيس مستوى الوحشية وما أخذت معها من أرواح. ولأن الميزان في هذه الحسبة يرجح لجهة سورية، تصبح الخسارات الأخرى أقل.



فقدت قريبتي بالأمس، آلمني أنها كانت بوعيها خلال ساعات احتضارها، وأخبرت عائلتها أنها تشعر بالموت يقترب منها وبسرعة. أتعبها المرض حتى أنهكها ونال منها. سأفتقدها بلا شك لكن ما يعزينا أنها ماتت على سريرها بهدوء.
المساهمون