الطفل عبد الواحد يقود أضخم "لعبة"

09 مارس 2016
"هل تصدق لو قلت لك إنني محظوظ!؟" (العربي الجديد)
+ الخط -
قبل أربعة أعوام، لم يكن بالمظهر الرثّ الذي هو عليه اليوم. يومها كان ينهي صفه الابتدائي الأخير في مدرسة دير الزور الثالثة في سورية. كان طفلاً جميلاً مليئاً بالحياة، ويملك مثل كلّ الأطفال في عمره أحلاماً كبيرة. بالتأكيد، لم يكن أحدهم يحلم أن يعمل سائق شيول (سيارة ضخمة تستخدم لنقل الرمال) في السعودية. فلو أنّ أحداً قال لعبد الواحد إنّه سيترك دير الزور إلى وجهة أخرى غير جامعة دمشق لتشاجر معه. كل آماله كانت في دراسة الهندسة والتخرج فيها لاحقاً. لكن ما حدث في السنوات الأربع الأخيرة غير حياته جذرياً، كما ملايين الأطفال السوريين.

حتى اليوم، ما زال عبد الواحد يصحو في الساعة السادسة صباحاً. لكن بدلاً من الذهاب إلى المدرسة مثل أي فتى في عمره، بات يذهب إلى العمل في مجال البناء. يحاول التأقلم مع واقعه الجديد، لكن ما زالت الأحلام لم تتلاش تماماً، بالرغم من ساعات العمل الثماني يومياً في جو متقلب بين البرودة والغبار. يلتقط عبد الواحد أنفاسه وهو ينزل من الشيول العملاق ويقول لـ"العربي الجديد": "هذا واقعي اليوم، لم يعد هناك مكان للمستقبل. عليّ أن أطعم عائلتي، فأنا أكبر أبناء أبي، وكلانا نعمل يومياً للحصول على ما يكفي الأسرة".
 

حاولت أسرة عبد الواحد الصمود في منزلها، لكنّ ارتفاع وتيرة الحرب، ودخول تنظيم الدولة الإسلامية "داعش" في القتال صعّب الأمور كثيراً. عجّل في قرار الرحيل سقوط قذيفة على الجدار الأيمن للمنزل القديم. لم تتجه الأسرة المكونة من سبعة أفراد مثل الكثير من السوريين إلى تركيا الأقرب. فضل الوالد الاتجاه بها جنوباً في اتجاه السعودية حيث يسكن أقرباؤهم منذ ثماني سنوات. وصلوا إلى مدينة الخبر في شرق السعودية، واستقروا فيها منذ سبعة أشهر.
بعد شهر واحد من الاستقرار في الخبر، تحول التلميذ في المرحلة المتوسطة إلى عامل بناء. يضيف عبد الواحد وهو يرسم ابتسامة كبيرة على شفتيه الجافتين: "كنت أحلم في أن أكون مهندساً. أحب العمل في البناء، الآن فقط تغيرت الطريقة، فبدلاً من الدراسة والحصول على الشهادة سأكون مقاولاً، وسأتعلم الحرفة بالممارسة".

من يشاهد عبد الواحد وهو يعمل على الشيول باحتراف، لا يعرف أنّه بدأ عمله هذا قبل ستة أشهر فقط. يقوده بين العواميد الخرسانية وكأنه يقود لعبة صغيرة، لا شاحنة يزيد وزنها عن ثمانية أطنان. ولا تقتصر خبرته على ذلك فقط، بل بات خبيراً في طمر الأرض بالرمال، وتجهيز القواعد للبناء. ينهض سريعاً ليكمل عمله، وهو يقول: "كل شيء في حياتي تغير، سورية تغيرت، فهل سأبقى أنا على حالي!؟". يتابع: "لم يعد هناك مكان للحياة، لم يتركوا مكاناً صالحاً للعيش في سورية. قبل أن نرحل كان الموت يحيط بنا من كلّ مكان. كثيرون من أقربائنا ماتوا بالقصف المتبادل. لا نعرف عائلة لم تخسر أحداً في هذه الحرب التي لم يؤخذ رأينا فيها. أعتقد أننا عائلة محظوظة لأننا هربنا إلى السعودية من دون أن نخسر أحداً منا. وعلى عكس ملايين السورين، نأكل ونشرب، ولدينا بيت يؤوينا، ولا يهددنا الموت كلّ صباح".
لا يعرف أحد متى سيعود عبد الواحد إلى مدرسته القديمة ليكمل دراسته التي توقفت بعد بدئه للتو المرحلة المتوسطة. لا يعرف هو نفسه كيف سيكمل مستقبله، وهل سيكون قادراً على العودة إلى الدراسة في المرحلة المتوسطة بعدما بات في سن يفترض معها أن يدخل إلى المرحلة الثانوية.

ينهي عبد الواحد نقل آخر شحنة من الرمال من أصل 34 شحنة عمل عليها طوال النهار. قبل أن يشرب بعض الماء، ينظر بفخر إلى ما أنجزه، فيقول: "أنا أحب العمل في البناء، أريد أن أستمر في تطوير قدراتي حتى أتمكن من العمل كمقاول يوماً ما. هل سأعود إلى الدراسة؟ لا أعتقد، لقد كبرت كثيراً عليها". في العامين الماضيين تضاعف عمر عبد الواحد أكثر من أي شخص آخر على الأرض. يتساءل وهو يضحك: "كم عمري، أمي تقول إنني سأكمل الخامسة عشرة في آخر مارس/ آذار الجاري". يردف: "لكنني أشعر أنني تجاوزت الثلاثين. لقد شاهدت أموراً في السنوات القليلة الماضية لم يشاهدها رجل في السبعين. أعتقد أنّ مستقبلي تحدد في اتجاه بعيد عن الدراسة منذ غادرت حدود بلدي سورية".

يمسح عبد الواحد برفق على حديد الشيول الضخم، وكأنه يداعبه، ويضيف: "هذا بات صديقي، ولعبتي المفضلة. كم شاباً يمكن أن يلعب بلعبة في مثل هذه الضخامة. هل تصدق لو قلت لك إنني محظوظ!؟". هو يريد تصديقه.. لكن هل نصدقه فعلاً؟

اقرأ أيضاً: "مدرسة خيمة" للاجئين السوريين الصغار
المساهمون