الأزمة الغذائية في مصر...تجاهل حكومي ومعاناة مجتمعية

04 نوفمبر 2018
التبرير والدعاية لا يطمس حقيقة الأزمة الغذائية(العربي الجديد)
+ الخط -
لن تكون أزمة ارتفاع أسعار السلع الزراعية خاصة الخضروات، الأخيرة في مصر، فقد سبقها موجات من ارتفاع أسعار السلع الغذائية، ورغم كل ما صاحب الأزمة الأخيرة من تبرير أو دعاية حول حلها، إلا أن ذلك لا يطمس الأزمة، أو يشعر المواطنين حتى بالتحسن المؤقت، فالدعاية تسقط مع أول فرصة للتسوق.

لكي تتضح صورة الأزمة لا بد أن نربطها بسياقها العام، بوصفها جزءا من تجليات الأزمة الاقتصادية، وطبيعة واتجاه الانحيازات الاجتماعية للسلطة، ورغم أن مسألة ارتفاع أسعار الغذاء وما يترتب عليه من عجز قطاع كبير من المصريين عن توفير احتياجاتهم الضرورية منه بدأت تتوسع، إلا أن الأزمة لا يتم التعامل معها بجدية، وأحيانا يتم تجاهلها عن قصد.

صحيح أن الأزمة ليست وليدة اليوم، لكنها تعمقت منذ العام 2016 عبر زيادة أسعار المحروقات وتعويم الجنيه المصري، مما خفض قيمته الشرائية، وزادت من جانب آخر تكاليف الإنتاج، وكذلك البنود المخصصة للاستيراد، وفي القلب منها المواد الغذائية.

باتت الأزمة واضحة منذ عام 2017، حيث تجلت آثار التعويم والتقشف والضرائب غير المباشرة والتي يدفعها المواطنون حين شرائهم للسلع، وزاد حجم قطاعات المصريين الذين يعانون من عجزهم عن توفير الغذاء الضروري والصحي، فلم تعد الأزمة في إطار الفئة الواقعة تحت خط الفقر والتي تقارب الثلث.

وحسب بيانات الجهاز المركزي للتعبئة والإحصاء فإن 27% من المصريين خلال عام 2016 لا يستطيعون الوفاء باحتياجاتهم الغذائية، فماذا عن العدد الذي أضيف إلى هؤلاء بعد تعويم الجنيه، وارتفاع أسعار الغذاء بمقدار الضعف تقريبا في معظم السلع الغذائية، ربما تصل النسبة بشكل تقريبي إلى النصف، خاصة إذا قمنا بحساب تكلفة سلة سلع غذائية لأسرة متوسطة فإنها لن تقل عن ثلاثة آلاف جنيه بحد أدنى، وإذا تمت مقابلة هذه التكلفة للغذاء مع متوسط الأجور فإننا سوف نكتشف حجم المأساة المسكوت عنها، ونكتشف أن شريحة أكبر من المصريين ذوي الدخول المحدودة والتي لا تتناسب مع نسب ارتفاع الأسعار دخلوا ضمن شريحة المعاناة.

وحسب بيانات رسمية يبلغ متوسط أجور المصريين ما بين 3-4 آلاف جنيه في القطاع العام والخاص، وهذا يعني أن المواطنين متوسطي الأجور تعاني أسرهم من مشكلات توفير الغذاء الضروري والصحي، ومستقبلا سيكون أطفالهم عرضة لعدد من أمراض الفقر، مما يهدد فرص الحياة والمستقبل.

رغم خطورة أزمة الغذاء لا تجد من يحمل قضية الأمن الغذائي بوصفها قضية أمن قومي، وكرامة إنسانية، وضرورة ملحة، ومهمة عاجلة، بحكم أن المتحكمين في المشهد السياسي والإعلامي والمعرفي في الجهة المقابلة لتلك المفاهيم والمحددات، بل إن الأزمة الشاملة للمجتمع المصري ومنها أزمة الغذاء هي أحد تجليات الانحيازات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية للسلطة، ومجموعات المصالح المستفيدة منها.
وهذه السلطة ومن حولها لا تضع في اعتباراتها الأغلبية من المصريين المتضررين من هذه الأزمة، أضف إلى ذلك أن القوى الاجتماعية والسياسية المهتمة بهذه القضايا باتت من الضعف الذي لا يسمح لها بإظهار مواقفها أو بلورتها بشكل علمي يصل لجمهور واسع من المصريين، بل إن بعضها يردد الأكاذيب والزيف حول جهود الدولة في توفير الغذاء للمصريين.

ومن ضمن الصورة الدعائية حول مشروعات الدولة يتصدر مشاريع المليون فدان وصوبات الخضار ومزارع الأسماك، ويعتبرون أن تلك المشروعات من أجل توفير الغذاء بينما بعض من نفذ منها يدار بمنطق الربح ولم يساهم في إنهاء أزمة الغذاء أو حتى تفكيكها، بل استفاد منها من أجل تحقيق أرباح مضاعفة.
على جانب آخر يرى البعض أن القول بوجود أزمة غذائية أمر مبالغ فيه، بل أن أحمد عكاشة أحد أشهر الأطباء النفسيين يرى أن شعور المصريين بالغلاء شعور نفسي زائف، بينما ترى المصرفية عضو مجلس النواب بسنت فهمي أن تحسن دخول المصريين سبب في ارتفاع الأسعار.

وذلك في قياس اقتصادي شكلي وساذج ما بين التضخم وارتفاع الطلب، وفي تجاهل تام لانخفاض الإنتاج وتراجع دعم المنتجين في القطاع الزراعي، وتصفية بعض القطاعات الصناعية في قطاع الأغذية، بالإضافة إلى الاحتكارات المحلية والإقليمية في هذا المجال.
أصبحت مقولات لا أحد ينام دون عشاء تحتاج إلى مراجعة، فهناك بالحسابات ملايين يحتمل أن يبيتوا دون عشاء، وهناك ملايين آخرون يعانون من سوء نوعية الأطعمة، ويعتمدون على أغذية رخيصة الثمن، وهناك من يأكل بعض الأطعمة غير الصالحة.
وإذ كنا نرد سبب الأزمة إلى عدة أسباب منها السياسات الاقتصادية خاصة فيما يتعلق بالمسألة الزراعية، وخطط ومعدلات الإنفاق العام الموجه لقطاع الأغذية، وكذلك توجهات وزارات التجارة والتموين، وإخفاق إجراءات الحماية الاجتماعية، فإن الجانب الآخر للأزمة يرتبط بنتائج ما يسمى ببرنامج الإصلاح الاقتصادي، خاصة فيما يتعلق بتحرير سعر الصرف، وما تلاه من ارتفاع مستلزمات الإنتاج عموما، وكذلك قرارات رفع أسعار الطاقة التي تساهم في زيادة أسعار الغذاء.
وإذا أضفنا العوار في أولوية التصدير مقابل توفير احتياجات المجتمع، فإننا سوف نكون أمام أطراف الأزمة من سياسات السلطة الاقتصادية، وميل القطاع الخاص إلى تحقيق أرباح كبرى من التصدير، وانسحاب الدولة من وضع أي ضوابط على حركة السوق والأسعار ومكافحة الاحتكارات.
نعيد ونكرر أنه ليس هناك أقسى من الجوع، فهو انتهاك للكرامة الإنسانية، ومفجر للمشكلات الاجتماعية، ومعطل لأي إمكانية للتنمية، بحكم أن الجوع العدو الأول الذي لا بد من مواجهته.

ولكي يمكن أن نواجه أزمة الغذاء لا بد من:

أولا: تطبيق سياسات وانحيازات اجتماعية واضحة، تتمثل في إقامة مظلة حماية اجتماعية تركز على توفير الدعم الغذائي للفقراء، فهو الأهم، بينما الدعم النقدي لا يكفي في ظل ارتفاع أسعار السلع الغذائية وعدم توافرها.
ثانيا: أن تضع الدولة قاعدة توفير احتياجات المجتمع الغذائية كهدف أسبق من هدف الربح، وبناء عليه يتوقف تصدير السلع الغذائية طالما لا تكفي الاحتياج المحلي.

ثالثا: دعم شبكة المنتجين للسلع الغذائية سواء من صناع أو فلاحين، عبر توفير مستلزمات الإنتاج وعمل شبكات نقل وتسويق توقف الهدر أو زيادة التكلفة التي ترفع أسعار السلع الغذائية.
رابعا: مواجهة الاحتكارات المتنامية في قطاع الغذاء، عبر تطبيق قانون منع الاحتكار، ورصد لشبكة المنتجين والمصدرين، بشكل حقيقي لا بطريقة دعائية تحمل بعض التجار المشكلة، وكان ارتفاع أسعارها مرتبطا بتجار التجزئة.

وقبل كل هذه الإجراءات، لا بد من وجود سلطة وطنية تعترف بالأزمة وتشخيصها بشكل دقيق حتى لا تتوسع المأساة، وأن تبدأ الحلول بمعالجة مشكلاتها من الجذور لا بطريقة زيادة منافذ البيع وتوفير السلعة بذات الأسعار، أو محاولة خلق تنافسية مؤقتة سرعان ما تنتهي بحكم ضعف الإنتاج في الأساس.


المساهمون