الحكومة المصرية والانتصار الوهمي على التضخم

05 ديسمبر 2017
انخفاض التضخم لا يعني رجوع الأسعار لما كانت عليه(الأناضول)
+ الخط -

ارتفع مؤشر داو جونز للأسهم الأميركية، خلال الأسبوع الماضي، إلى ما يزيد عن 24 ألف نقطة لأول مرة في تاريخه، ليكمل سلسلة الارتفاعات التي بدأت بقوة مع وصول ترامب للبيت الأبيض، وبذلك يكون المؤشر الأشهر في العالم قد ارتفع أكثر من 30%، أو ستة آلاف نقطة، منذ تولي ترامب الحكم.

وتشير أغلب التوقعات إلى استمرار صعود المؤشر، حيث حققت أغلب الشركات نتائج جيدة، خلال العام المنصرم، ومن المتوقع أن تستمر النتائج الجيدة في الفترة القادمة، خاصة مع إقرار قانون الإصلاح الضريبي الجديد.

لكن الاقتصاد الأميركي يعاني من مرضٍ عضال في الوقت الحالي، وهو انخفاض معدل التضخم!، ويعتبر الاقتصاديون الأميركيون أن التضخم مثل الملح في الطعام، فكثيره يكون مضراً جداً، لكن في كل الأحوال لا يمكن الاستغناء عنه. وهم يرون أن قليلاً من التضخم يكون مطلوباً دائماً لحماية الاقتصاد من الركود.

وفي عام 2012، أعلن بنك الاحتياط الفدرالي (المركزي الأميركي) عن استهداف مستوى 2% للتضخم، وقالوا إن هذا المستوى سيضبط المزاج الاقتصادي العام، مما يؤدي إلى زيادة الأجور وزيادة أرباح الشركات بصورة أسرع، كما أنه يقلل فرص حدوث ركود.

وفي ناحية أخرى من الكوكب، عانت مصر من مستويات التضخم المرتفعة لسنوات طويلة، وكانت أشد الفترات صعوبة هي فترة ما بعد اتخاذ قرار تعويم الجنيه في نوفمبر 2016، الذي ارتفع بموجبه الدولار ليصل إلى ما يقرب من عشرين جنيهاً، وكان هناك ارتفاع موازٍ في التضخم السنوي في مصر، حتى وصل التضخم في بعض أوقات 2017 إلى ما يزيد عن 35%.

وترجمة هذا الرقم تعني أنه في المتوسط لو كان كيلو اللحم الواحد مثلاً يباع بمائة جنيه في يوليو 2016، فقد وصل سعره إلى مائة وخمسة وثلاثين جنيهاً في يوليو 2017.

وهنا تجدر الإشارة إلى ثلاث ملاحظات هامة:

الأولى، أن هذا النوع من التضخم، والذي يأتي مع حدوث انخفاض كبير في قيمة عملة البلد، التي تستورد نسبة كبيرة جداً مما تستهلكه، ومن الأدوات التي تساعد في إنتاج ما تبقى مما تستهلكه، يطلق عليه "التضخم المستورد"، حيث يكون الارتفاع في قيمة السلع هو بالأساس انعكاس لارتفاع قيمة الدولار، الذي يتم به شراء السلع من الخارج.

هذا النوع من التضخم لم يتسبب فيه زيادة المعروض من النقود في أيدي المستهلكين، كما يحدث في كثير من حالات ارتفاع مستويات التضخم، وبالتالي لا يكون العلاج في رفع معدلات الفائدة لسحب السيولة من أيدي المستهلكين، وإنما يكون في زيادة الإنتاج المحلي وإحلال الواردات. فزيادة معدلات الاستثمار ورفع الناتج المحلي ستؤدي بالضرورة لتوفير كثير من السلع قليلة التكلفة، والتي يمكن الاستعاضة بها عن المستورد مرتفع التكلفة.

بالطبع، الأمر ليس بالبساطة الظاهرة، ولكن توجيه الجهود ناحية تشجيع الاستثمار وزيادة التصنيع والإنتاج المحلي سيؤدي، مع الوقت، إلى تحسين المنتج المصري بما يمكنه من منافسة المستورد، مع الاستفادة من وفورات النطاق.

أما الثانية فهي أن التضخم المرتفع الذي شهدناه خلال الاثني عشر شهراً الماضية، سيبدأ في الانخفاض اعتباراً من العاشر من ديسمبر الجاري، موعد الإعلان عن بيانات التضخم لنوفمبر 2017.

ولا يرجع ذلك بالطبع لأسعار الفائدة المرتفعة التي فرضها البنك المركزي على الجميع، وإنما يرجع، تحديداً وحصرياً، لما يعرف بتأثير سنة الأساس، حيث سيتم مقارنة أسعار شهر نوفمبر 2017 بأسعار شهر نوفمبر 2016، وهو الشهر الذي تم فيه تعويم الجنيه، وحيث إن الأسعار كانت في نوفمبر 2016 قد بدأت في الارتفاع بالفعل، فإن مقارنة أسعار نوفمبر 2017 ستكون بأسعار نوفمبر 2016 المرتفعة (كيلو اللحم 108-110 جنيه على سبيل المثال)، وليس بأسعار ما قبل ذلك المنخفضة (كيلو اللحم 100 جنيه فقط).

وبالتالي سينخفض التضخم بحوالى 5% إلى 7%، ليصبح 23% إلى 25%، ثم تتوالى الانخفاضات بعد ذلك، وصولاً إلى مستوياتنا المعتادة في عصر ما قبل التعويم الأخير، وهي 11% إلى 13%، خلال النصف الأول من العام القادم 2018، حيث ستتم مقارنة "كيلو اللحوم أبو 150 جنيه بكيلو اللحم أبو 135 جنيه".

ويشبه الأمر هنا حالة المريض الذي شعر ببعض آلام المعدة، فتوقع الطبيب أن يكون السبب تناوله بعض الأطعمة الملوثة، فكتب له على عجالة مطهراً للمعدة، بينما كانت حقيقة الأمر أن المريض تعرض لإحدى نزلات البرد، التي أصابت ضمن ما أصابت معدته. فلما شُفي المريض بعد عدة أيام، بتأثير مرور الوقت وانتهاء دورة المرض، اعتقد الجميع أن الفضل يرجع للطبيب العبقري أو الدواء السحري.

أما الملاحظة الثالثة والأخيرة، فهي أن انخفاض التضخم من 35% إلى 13%، أو حتى انخفاضه لتحت العشرة بالمائة كما تهدف الحكومة، لن يعني بحال رجوع الأسعار إلى ما كانت عليه قبل التعويم، أو حتى الاقتراب منها، وإنما سيعني أن ارتفاعات الأسعار ستحدث بمعدلات أبطأ من المعدلات التي شهدناها بعد التعويم مباشرة، ومن ثم تنشأ الحاجة إلى آليات لتعويض المواطنين.

فالمواطن المصري الذي شهد ارتفاع سعر كيلو اللحم من 100 جنيه إلى 135 جنيه، لم يزد راتبه إلا بجزء ضئيل من تلك الزيادة في الأسعار، وهو ما يعني أن مستوى معيشته قد انخفض.

ولن يهنأ المواطن مرة أخرى إلا بزيادة الإنتاج المحلي، والاستغناء عن الواردات بقدر الإمكان. وهذا الأمر وحده هو الذي سيؤدي لتفادي الارتفاعات الكبيرة في الأسعار، وسيمنع حدوث قفزات جديدة في سعر الدولار مقابل الجنيه في الفترة المقبلة.

وهنا ربما يكون من المناسب المطالبة بربط الحد الأدنى للأجور، وكذلك الزيادات السنوية في الرواتب، بمعدلات التضخم السائدة في البلاد، مع ضرورة تخفيض معدلات الفائدة على الجنيه في أقرب وقت ممكن.


المساهمون