والمعهد الألماني واحد من أكثر المؤسسات الدولية شفافية في جميع أنحاء العالم. ويُعد بمثابة المطبخ السياسي للحكومة والبرلمان الألمانيين، حيث يقدم الاستشارات السياسية المستقلة في الشؤون الدولية والسياسات الخارجية والأمنية.
ويتلقى المعهد التمويل من الموازنة الحكومية للبرلمان الذي يراقب حساباته المالية بدقة، وكذا من الاتحاد الأوروبي. ويقدم المعهد استشاراته البحثية إلى الجهات المانحة ابتداء، وهي الحكومة الألمانية والبوندستاغ، والاتحاد الأوروبي، وحلف شمال الأطلسي، والأمم المتحدة.
الورقة البحثية توضح كيف يمكن للأوروبيين قيادة طريق بديل إلى الأمام تجاه حل أزمة سد النهضة. وهي المرة الأولى في تاريخ الأزمة التي يُظهر فيها أكبر معاهد السياسات الأوروبية القلق من التداعيات الوخيمة للسد على أمن واستقرار القارة الأوروبية، ومخاطر الهجرة غير الشرعية جراء تهديد السد المباشر للأمن والاستقرار في مصر والسودان.
حتى إن الورقة كانت أقرب إلى الدراسة الأمنية منها إلى الحل السياسي. وقد تعبّر في المستقبل القريب عن رؤية ألمانية أو أوروبية لإدارة الأزمة، بغض الطرف عما فيها من إيجابيات وسلبيات.
والثاني، ستيفان رول، رئيس قسم أبحاث الشرق الأوسط وأفريقيا في المعهد الألماني للشؤون الدولية والأمنية. وعمل باحثا مقيما في القاهرة سنة 2006، وله خبرة طويلة في التحولات السياسية والاقتصادية المصرية، وكذلك قضايا الهجرة غير الشرعية من دول الشرق الأوسط إلى دول أوروبا.
والثالث، لوكا ميهي، باحث مساعد في الشؤون الدولية بقسم الشرق الأوسط وأفريقيا في المعهد الألماني، ويقيم في مصر منذ سنة 2017 للدراسة في الجامعة الأميركية في القاهرة. وهو خبير في العلاقات السياسية بين الاتحاد الأوروبي ومصر والجزائر، وقضايا الهجرة غير الشرعية.
في بداية الدراسة أكد الخبراء الثلاثة فشل مبادرة الولايات المتحدة تمامًا واحتمال استمرار الأزمة من دون حل لمدة طويلة، الأمر الذي يضر بموقف مصر التفاوضي الذي يزيد ضعفًا بمرور الوقت.
وصرح مايك بومبيو، وزير الخارجية الأميركي، بأن الأمر قد يستغرق أشهرا قبل التوصل إلى اتفاق. وبما أن ثلاث جولات من المفاوضات في واشنطن قد فشلت بالفعل في تحقيق أي نتائج ملموسة، فإن الفشل التام للمبادرة الأميركية لا يمكن استبعاده.
وفي هذه الحالة، سيتم تفعيل المادة 10 من إعلان المبادئ الثلاثي لعام 2015، الذي ينص على ضرورة إجراء مزيد من المشاورات، أو الشروع في الوساطة الدولية، أو إجراء المفاوضات على مستوى رؤساء الدول أو الحكومات.
وعلى أي حال، فإن أي ضياع إضافي للوقت من شأنه أن يضعف الموقف التفاوضي المصري، وفق خبراء المعهد.
مصر تحت الضغط
يعترف الخبراء الأوروبيون بأن مصر تعتمد بشكل شبه كامل على النيل في احتياجاتها المائية، وأن 86 في المائة من مياه النيل، التي تصل إلى سد أسوان، تنشأ في المرتفعات الإثيوبية. في ضوء ذلك، أصرت الحكومات المتعاقبة في القاهرة على الوضع الراهن لتوزيع المياه.
واعتمدوا في المقام الأول على المعاهدات الاستعمارية: أولاً، اتفاقية عام 1929 مع بريطانيا، القوة الاستعمارية العظمى، والتي منحت مصر حق النقض ضد مشاريع المياه في المناطق العليا؛ وثانياً، اتفاقية مع السودان عام 1959 قسمت موارد النيل المائية بين البلدين، وكفلت مصر 55.5 مليار متر مكعب سنوياً والسودان 18.5 مليار متر مكعب. وتتجاهل القاهرة حقيقة أنه تم التفاوض على هذه العقود من دون إثيوبيا.
وحتى الآن، باءت بالفشل أيضا جهود ممارسة الضغط على إثيوبيا من خلال تعبئة الدول الحليفة. تحتفظ الولايات المتحدة والأوروبيون، وكذلك دول الخليج والصين، بعلاقات جيدة مع البلدين، ومن الواضح أنهم غير مستعدين لاتخاذ موقف في صراع المياه.
من غير المرجح أن تقدم القيادة الإثيوبية تنازلا من تلقاء نفسها، نظرًا لأن المشروع أخذ بعدًا وطنيًا. في نهاية عام 2019، تم الانتهاء من حوالي 70% من أعمال البناء، بحيث يمكن أن تبدأ عملية الملء في عام 2020. لذلك فإن بناء سد النهضة له أهمية مماثلة لإثيوبيا مثل سد أسوان لمصر، إنه ليس مجرد مشروع بنية تحتية، بل مشروع القرن الذي يمهد الطريق لتحديث البلاد.
إن أي تأخير إضافي في تنفيذه، أو تقليص كبير في حجم المشروع، سيكون من الصعب على الحكومة الإثيوبية أن تبرره لمواطنيها. لذا كانت زيارة رئيس الوزراء آبي أحمد إلى السد، في مطلع فبراير/شباط 2020، رمزية للغاية، حيث جاءت بعد يوم واحد فقط من فشل جولة أخرى من المفاوضات.
وقد وصلت المفاوضات بشأن ملء الخزان إلى طريق مسدود، لكن مع تحقيق إثيوبيا مزايا واضحة. وفي حالة حدوث تأخيرات جديدة، فإن الحكومة في أديس أبابا يمكن أن تشرع في ملء سريع لخزان السد، ما قد يتسبب في نقص كبير في المياه في مصر.
ويمكن أن تكون لنقص فرص التنمية ونقص المياه عواقب وخيمة على أوروبا، بما في ذلك زيادة ضغط الهجرة. وإذا لم يتم التوصل إلى اتفاق، فإنه يجب على ألمانيا وشركائها الأوروبيين تقديم حلول بديلة لإحياء المفاوضات من جديد.
آلية التعويض
يطرح الخبراء حلًا للنزاع الدائر على مياه النيل بين مصر وإثيوبيا من أجل تعزيز الاستقرار في إقليم حوض النيل، الجار القريب لأوروبا، والذي مزقته الصراعات الدموية، ولتقليل الضغط الذي تمثله الهجرة غير الشرعية نحو القارة العجوز.
وعلى عكس ما حدث في الماضي، يقترح الخبراء ألا تركز المفاوضات، في ظل القيادة الأوروبية للأزمة، على المحاصصة في توزيع المياه.
ويقترح الخبراء أن تقوم إثيوبيا بإبطاء عملية ملء الخزان بالمياه لتقليل الآثار السلبية للسد على الحياة في مصر.
وفي المقابل تقوم مصر بتعويض إثيوبيا عن الآثار السلبية الناتجة عن إبطاء عملية الملء على الاقتصاد الإثيوبي. وفي السنوات الممطرة، يمكن أن تحتفظ إثيوبيا بكمية مياه أكبر مما تم الاتفاق عليه، ما يقلل من المبالغ التي تُدفع على سبيل التعويض.
وعلى العكس من ذلك، يتم تعويض أديس أبابا في فترات الجفاف إذا سمحت بمرور كميات من المياه إلى مصر تفوق الكميات التي تم الاتفاق عليها في الأصل. وإذا أمكن تفعيل آلية التعويض في مرحلة ملء السد، فإنه يمكن أيضاً استخدام نفس القواعد والمبادئ في المستقبل للتحكم في مستوى المياه في السد.
وعلى مصر القبول بتمويل هذه الآلية، على الرغم من أنه، بموجب القانون الدولي، يحق لها الحصول على حصة عادلة ومنصفة من مياه النيل، لكن نظام الحصص بالنسبة لموقف مصر سيكون من المستحيل تقريباً تنفيذه عملياً أو حسب القانون.
وفي ظل حالة الجمود الحالية، ينبغي على الأوروبيين تقديم اقتراحهم الذي يجب أن يعترف بشكل أساسي بالقوة التفاوضية المتزايدة لإثيوبيا. وفي ظل عجز مصر المالي، يتعين على ألمانيا وشركائها الأوروبيين تزويد مصر بالدعم المالي لإنشاء آلية لهذا التعويض.
وهذا من شأنه أن يعزز الاستقرار في المنطقة المجاورة لأوروبا والتي مزقتها الصراعات، ويقلل من الضغط الذي تمثله الهجرة غير الشرعية. بالإضافة إلى ذلك، فإنه ينبغي إشراك دول الخليج في المفاوضات، بصفتها أهم الشركاء لدول النيل الثلاث المتضررة، إذ ستستفيد من التوصل إلى حل سلمي ومستدام للصراع، بالنظر إلى استثماراتهم الضخمة في حوض النيل، ولا سيما في القطاع الزراعي.
شروط المشاركة الأوروبية
اشترط الخبراء على المؤسسات الأوروبية المعنية بالأزمة أن تربط الدعم المالي لآلية التعويض المقدم لمصر، بشروط تهدف إلى تحقيق حل شامل لأزمة المياه. إن الصراع حول سد النهضة يتزامن مع حالة طوارئ مائية حادة في مصر. وحتى من دون ملء خزان سد النهضة، ستصل البلاد إلى عتبة ندرة المياه المطلقة في عام 2025، وفقاً لتقديرات الأمم المتحدة.
ورغم ذلك، أصبحت مصر، في عهد السيسي، ثالث أكبر مستورد للأسلحة في العالم، وهي تمضي قدماً في مشاريع استعراضية باهظة التكلفة، مثل العاصمة الجديدة في الصحراء (45 مليار دولار على الأقل) أو بناء محطة للطاقة النووية (25 مليار دولار تقريبًا)، مع تجاهل الاستثمار الحكومي في إدارة المياه.
وبالتالي، يتعين على ألمانيا وشركائها الأوروبيين ربط مساهماتهم المالية في إطار حل التعويض المقترح بالشروط التالية: يتعين عليهم المطالبة بإعادة توجيه سياسة الإنفاق الحكومي في مصر، والتي يجب ألا توجه نحو المنطق الاستبدادي أكثر من ذلك.
ولتحقيق إعادة التوجيه هذه، فإنه لا غنى عن القيام بإصلاحات سياسية نحو تحسين أسلوب الإدارة وآلية المساءلة. كما يتعين على إثيوبيا أيضاً الالتزام بالتفاعل المرن في حالة حدوث جفاف شديد خلال الإطار الزمني المتفق عليه بين الطرفين لملء الخزان.
إيجابيات ومغالطات
حوت الرؤية الأوروبية بعض الإيجابيات التي يمكن لمصر البناء عليها. فهي تعترف بالمخاطر الوخيمة لسد النهضة على الأمن والاستقرار في مصر والسودان، وعلى أمن واستقرار القارة الأوروبية والهجرة غير الشرعية تجاه أوروبا.
وتقر بفشل مبادرة الولايات المتحدة التي تقوم على تخفيض الحصص وزيادة أمد المفاوضات، وترى ضرورة إبطاء وتيرة ملء خزان السد بما يضمن تقليل أضرار السد على مصر والسودان. وتطالب بضرورة تحمل ألمانيا وشركائها الأوروبيين المسؤولية في تقديم حل عادل لأزمة السد، منعًا لتهديد السلم والأمن الإقليمي.
من جهة أخرى، تنطوي الرؤية على بعض المخاطر والمغالطات. فهي تُقر آلية التعويض المالي على ما فيه من إقرار لمبدأ بيع المياه مثل البترول، والذي ترفضه القوانين الدولية للمياه حتى الآن. وهي تتوافق مع إثيوبيا في رفض الاتفاقيات التاريخية المنظمة لحقوق مصر في مياه النيل، بحجة أنها أبرمت في عهد الاستعمار، وهو ما يخالف القوانين الدولية التي تقر مبدأ توارث الاتفاقيات التي خطها المستعمر، كما تعترف بالحدود التي رسمها بين الدول. كما تجاهلت اتفاقية 1902 التي وقعها ملك إثيوبيا في غياب الاستعمار وتمنع إثيوبيا من بناء السد.
وتقر الورقة مبدأ فرض الأمر الواقع الذي لجأت إليه إثيوبيا بعد أن قاربت على إنجاز بناء السد، مستغلة الخطأ الذي ارتكبه السيسي بتوقيع اتفاق مبادئ 2015. ولا تستنكر إعلان إثيوبيا الانفراد بملء الخزان بالمخالفة لاتفاق المبادئ نفسه.
وتستبعد الورقة أيضًا حل الأزمة من خلال تخفيض سعة الخزان من 74 مليار متر مكعب إلى حجمه الأصلي الذي أعلنته إثيوبيا في 2011، وهو 14 مليار متر مكعب، خوفًا من غضب الشعب الإثيوبي، ومن دون اعتبار لمخاطر السد على الشعب المصري. كما أنها تغض الطرف عن رفض إثيوبيا إنجاز دراسات عدم الضرر وأمان السد التي أقرتها اللجنة الدولية في تقرير 2013.
بعد نشر الورقة الأوروبية، زار وفد إثيوبي بقيادة الرئيس الإثيوبي السابق، مولاتو تيشومي، الإتحاد الأوروبي وفرنسا للدفاع عن موقفها الرافض للمفاوضات. وبعده، زار وزير الخارجية المصري، سامح شكري، الإتحاد الأوروبي وفرنسا.
وبدلًا من استثمار المخاوف الأوروبية من مخاطر السد على تهديد أمن أوروبا وزيادة الهجرة غير الشرعية، ومطالبة الإتحاد الأوروبي بتبني موقف عادل لحل الأزمة على أسس جديدة من خلال تخفيض حجم السد، والتنسيق بين الدول أثناء التشغيل، وتنمية الموارد المائية في أعالي النيل، ورفض سياسة فرض الأمر الواقع الإثيوبية، طالب شكري القادة الأوروبيين بالضغط على إثيوبيا من أجل توقيع الاتفاق الأمريكي الذي يسلب مصر حقوقها المائية، ويتجاوز أمان السد وتعويض الضرر، وتتحفظ عليه السودان!