بين التسمم المعرفي والتوتر الافتراضي

05 ابريل 2019
لا تتخزن معلومات مواقع التواصل بالذاكرة البعيدة (أوتي غرابوسكي/Photothek)
+ الخط -
هل سبق وشعرت بأحد هذه الأعراض في أثناء تصفّحك إحدى وسائل التواصل الاجتماعي: اتساع حدقة العين وانقباضها، صعوبة في التنفس، غثيان، حدوث ازرقاق في بعض الأحيان، انخفاض في ضغط الدم، تسارع في دقات القلب، انخفاض في درجة الحرارة؟ صحيح أنّ هذه الأعراض تحيلنا مباشرةً إلى التفكير في التسمم الغذائي أو الدوائي، لكنّ ما يثبته الواقع والدراسات والإحصاءات الجديدة، هو أن حالاتٍ مشابهة للتسمم تتسبّب فيها أيضاً وسائل التواصل الاجتماعي. 

فكلّما زاد تصفّحك للمواقع والمنصات، تَلبّست فيك تلك الأعراض الجسدية والنفسية أكثر. فقد أكدت دراسة نُشرت في مجلة "جهاز الكمبيوتر والسلوك البشري"، أنّ استخدام الشخص لأكثر من 7 منصات للتواصل الاجتماعي يضاعف خطر الإصابة بالاكتئاب والقلق 3 مرات، مقارنةً بمن يستخدم منصّتين أو أقل. بينما بيّنت دراسة أخرى قدّمها مركز "بيو" للدراسات في واشنطن أنّ موقع "تويتر" كان الأول من بين المواقع التي تسبب توتراً بين المستخدمين المشاركين في الدراسة، خصوصاً النساء.

ومثل ما يحدث أثناء الإصابة بالتسمم الدوائي، من رعشة أو اضطرابات في الجهاز التنفسي، نجد لها ما يقابلها في أثناء تصفحنا مواقع التواصل ومنصات المعرفة والتعليم التي انتشرت كالنار في الهشيم. ولعلّ مصطلح التسمم المعرفي هو الأنسب لهذه الحالة، فجُلها معارف لحظية، تَفقد قيمة ما تقدمه، ولا تُختَزن في الذاكرة بعيدة المدى. وذلك لأن كثافة المعارف الزائفة وانتشارها حوّلت أدمغتنا إلى مُستَقبِل فقط من دون ترتيب معين وواضح، الأمر الذي يؤدي إلى عدم اختزانها في الذاكرة طويلة المدى ونسيانها.

وبينما يحصل التسمم الدوائي عن طريق الفم، عبر تناول الحبوب أو تناول عرضي لجرعة كبيرة، فإن التسمم المعرفي يكون عبر وسائل التواصل، عن طريق مشاهدة بعض الصور التي تكتب عبارة مجتزأة من رواية أو كتاب أو مجلد فلسفي. حتى وصلت الحال إلى تقويل بعض الفكرين والفلاسفة ما لم يقولوه، وذلك تسليع للعبارة المراد تسويقها والحصول على مشاهدات وإعجابات أكثر، عن طريق كتابة اسم كاتب أو مفكر لترويجها، أو يمكن أن تعبّر عن الحالة المزاجية للناشر في الصفحة أو المنصة، مثل صورة كتاب وضوء شمعة كتب عليها "الآن علمت ماذا يعني المال... العظيم دوستوفيسكي"، أو "تكلم حتى أراك.. المعلم سقرط".
إلى جانب ذلك، يمكن "الإصابة" بالتسمم معرفيًا عن طريق الصوت والصورة، ما تضخّه منصات وصفحات تروّج لفيديوهات معرفية، تهدف إلى نشر المعرفة ليس إلا، وتعطيك انطباعاً خادعاً بأنك أصبحت تعرف حقاً. وتبدأ هذه الصفحات خبرها بـ "تَعرّفْ"، "هل تعلم"، "سر خبأوه عنا منذ الصغر"، "القصة الكاملة"، يتبعها عبارات من قبيل "في ثوانٍ أو دقائق أو خطوات أو بكل سهولة"، سواء كان المنتج أو المعرفة المراد نشرها أدبية أو علمية أو تاريخية أو نفسية أو فلسفية. وهذه المعرفة قد تكون عن رأس المال، أو نقد هيغل للمنطق الأرسطي أو عن النسبية، مهما كان حجم النظرية أو حجم الاختصاص الذي يؤهل شخصا ما أو موقعا للحديث. إذ إن عدداً قليلاً من المواقع والمنصات التي تهتم بالعلم وتقدم معرفة يمكن أن تجذبنا لمتابعتها وتقصّيها، تُدرج عدداً من المصادر لتلك المعلومات، بالرغم من أنّ وجود الأخيرة لا ينفي التشكيك في هذه المعرفة.

وخلصت دراسة جديدة نُشرت في دورية SAGE Journals إلى أن مستخدمي الإنترنت الذين يقرؤون فقط مقتطفات مختصرة من الأخبار، غالباً ما يعتقدون بأنهم أكثر وعياً وثقافة. وقالت الدراسة إن التصفح السريع يضيف معلومات مهمة إلى المستخدمين، لكنه يجعلهم يعتقدون بثقة زائدة في ثقافتهم. وعند إلقاء نظرة سريعة على موجز قصير، بدلاً من قراءة النص الكامل للمقال، يبالغ كثير من المستخدمين في تقدير فهمهم للموضوع، خصوصاً بين أولئك الذين يُدخلون العواطف والحماسة في الموضوع.

الحديث هنا عن مواقع أو منصات تتسبب في هذا التسمم. لكنّ هذه الحالة قد يتسبب فيها أيضاً أفراد عبر "فيسبوك" و"تويتر" أو حتى على "يوتيوب" وغيرها. وأولئك ينشرون "معارف" ليست لهم وينسبونها إليهم، أو أنّهم يكتبون منشورات معرفية أو مقالات، في بعض الأحيان، من خلال التجميع من هنا وهناك بطريقة النسخ واللصق، أو سرقة ترجمة ما، وهؤلاء يمكن في بعض الحالات كشفهم عبر نسق اختلال اللغة وركاكة التركيب والصياغة، ومن خلال مغالطات توثيقهم للمصدر. فيكتب شخص ما، ما يكتبه، ويذيله باسم ما، من دون القدرة على التأكّد إن كان فلاناً قد كتب ذلك بالفعل. بيد أنك إذا بحثت في نصوص وجمل وحالات مَن يكتبون معارف وينشرونها، تجد كثيراً من كلامهم وما يرغبون في قوله، مدسوس في نظرية أو شرح لمفهوم أو رأي سياسي معروف.
المساهمون