خلال حملته الانتخابية عام 2017، كان إيمانويل ماكرون المرشح الرئاسي البارز الوحيد الذي لم يهاجم الصحافة الفرنسية. لكن قضية حارسه الشخصي غيّرت نبرته، فاتهم الصحافة الفرنسية بأنها "لا تسعى وراء الحقيقة"، في يوليو/ تموز الماضي، ثم تصاعدت مضايقات السلطات الفرنسية إلى حدّ غير مسبوق حين داهمت، من دون أمر قضائي، مكاتب موقع "ميديابارت"، في فبراير/ شباط الماضي، وصولاً إلى البدء باستدعاء الصحافيين في إبريل/ نيسان الماضي.
وقد استدعت الإدارة العامة للأمن الداخلي ثمانية صحافيين، إضافة إلى رئيس مجلس إدارة صحيفة "لوموند"، لاستجوابهم بتهمة "المساس بسرّ الدفاع الوطني"، في قضيتين: السلاح الفرنسي المستخدم في اليمن، وتشعبات القضية المعروفة إعلامياً بـ "فضيحة ألكسندر بنعلا"، المساعد الأمني السابق للرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون.
وتمثل صحافية "لوموند" أريان شومان التي كشفت قضية بنعلا ورئيس مجلة إدارة الصحيفة نفسها لويس دريفوس، للاستجواب اليوم الأربعاء. ويتعلق الأمر، وفق إدارة الصحيفة، بالمعلومات التي نشرتها "لوموند" حول بروفايل ضابط الصف في القوة الجوية، شكري واكريم، زوج الرئيسة السابقة للأمن في مقر رئاسة الحكومة، ماري-إيلودي بْواتو، بعدما رفع شكوى نهاية إبريل/ نيسان الماضي.
في قضية السلاح الفرنسي المستخدم في اليمن، طاولت قائمة المستَدعين والمستدعيات الصحافية فالنتين أوبرتي العاملة في القناة الفرنسية الأولى ومهندس الصوت والمراسلة المكلفة بالصور يومي 11 و15 إبريل/ نيسان الماضي، ومؤسّسي موقع "ديسكلوز" ماتياس ديستال وجوفروا ليفولسي يومي 14 و15 مايو/ أيار الحالي، والمتعاون مع "ديسكلوز"، ميشيل ديسبرات، إضافة إلى الصحافي في قسم الاستقصاء في "راديو فرانس" بونوا كولومبا.
وجاء الاستجواب بعد مرور شهر على نشر الموقع المذكور و"راديو فرانس"، مع موقع "ذي إنترسبت" و"ميديا بارت" و"آرتي إنفو" و"كونبيني نيوز"، تقريراً استقصائياً كشف عن حجم صادرات المعدات العسكرية من فرنسا والولايات المتحدة والمملكة المتحدة إلى السعودية والإمارات، واستخدامها لاحقاً في شنّ حرب ضد اليمن. وأشار التقرير المذكور إلى مدى تواطؤ الدول الغربية في الصراع المدمر الذي قتل أو جرح أكثر من 17900 مدني، وسبّب مجاعة أودت بحياة حوالي 85 ألف طفل.
وقد رأت إدارة موقع "ديسكلوز" في استدعاء صحافييها "محاولة جديدة من نيابة باريس للالتفاف على قانون 1881 حول حرية الصحافة وحماية المصادر"، و"محاولة لجعلهم أمثولة، وخصوصاً أنها المرة الأولى التي يُكشف فيها عن وثائق بهذا الحجم في فرنسا" و"ترهيب الصحافيين وإبعادهم عن أسرار الدولة".
واعتبرت "لجنة حماية الصحافيين" هذا الاستدعاء "اعتداء على حرية الصحافة في فرنسا". ورأتها منظمة "مراسلون بلا حدود" مثيرة للقلق. ووقعت 37 مؤسسة صحافية بياناً تضامنياً مع الصحافيين المستدعين للتحقيق. وجاء في البيان: "نحن مجموعة من الصحافيين والمحررين نعبّر عن تضامننا الكامل مع زملائنا الذين قاموا فقط بعملهم، وهو لفت انتباه المواطنين إلى مجموعة من المعلومات ذات المنفعة العامة حول عواقب بيع الأسلحة الفرنسية".
وإذا كان الجسم الصحافي الفرنسي عبّر عن التضامن مع الزملاء في بحثهم عن الحقيقة وفي حقهم عدم الكشف عن مصادرهم، فإن السلطات الفرنسية لا ترى القضية من هذه الزاوية. فـ "الصحافيون كغيرهم من المواطنين، ليسوا فوق العدالة"، كما صرحت الناطقة باسم الحكومة، سيبيث ندياي. وبالتالي، فـ"من الطبيعي أن تحمي الدولة بعض المعطيات الضرورية في أنشطة الدفاع الخارجي والعسكري خوفاً من أن تستغلها قوى أجنبية"، وفقاً لندياي. وحول حق الصحافيين في الاحتفاظ بسرية مصادرهم، أكدت ندياي أنه "حقٌّ مهمّ بالنسبة للصحافيين، ومُؤسِّس لنشاطهم"، مستدركة: "لكن الدولة هي الدولة. وهناك أسرار علينا حمايتها".
وهذا هو الموقف نفسه الذي أعلنه الرئيس الفرنسي، أثناء لقائه مع نجم موقع "يوتيوب"، هوغو ترافيرس. إذ عبّر ماكرون عن انزعاجه مما رآه خلطاً بين مسألة الحفاظ على سرية المصادر و"الحماية الوطنية".
تجدر الإشارة إلى أن حرية الصحافة تحظى بحماية معززة في فرنسا منذ أكثر من 130 عاماً، بموجب قانون الصحافة لعام 1881 الذي يمنح الصحافيين حق حماية سرية مصادرهم.
يُعرّف القانون أيضاً "بعض الجرائم الصحافية" التي قد يُتهم بها الصحافيون - مثل التشهير - ويحدد الإجراءات الخاصة بكيفية التعامل مع هذه الجرائم، عبر المحاكم التي يمكنها إصدار العقوبات، بما في ذلك الغرامات، وفي الحالات القصوى السجن. لكن مسائل أمن الدولة ليست مدرجة في قانون الصحافة باعتبارها "جريمة صحافية"، ويبدو أن جهاز الاستخبارات الداخلية استغل هذه الثغرة لاتهام الصحافيين بـ"المساس بسرية الدفاع الوطني".