لأوروبا التي يفترض أنها "جنة الحريات الصحافية"، وجهٌ آخر، تكشف عنه عمليات اغتيال مشبوهة، إلى جانب تفضيلات تمارَس بشكل مبطّن، يشبه ما لدى أنظمة استبداديّة ترى في الصحافة ذراعاً لتلميع قبح ما تعيشه السياسة في تسلط الفساد وتغلغل أصحاب الامتيازات.
مع نهاية فبراير/شباط الماضي، انضمّ الصحافي الاستقصائي السلوفاكي، يان كوسياك، إلى ضحايا - صحافيين - آخرين. كوسياك كان بصدد التحقيق في احتمالية وجود صلات بين المافيا والسياسيين في بلده. انتهت حياة الشاب (27 سنة) بإطلاق النار بدم بارد، ليعدم مع خطيبته مارتينا كوسنيروفا، وهو لم يكن قد أنهى بعد مقاله الأخير: "المافيا الإيطالية في سلوفاكيا... مجساتها تصل إلى الحياة السياسية".
رغم ذلك نشر زملاؤه ما استطاع الانتهاء منه في صحيفته "أكتواليتيا" التي أعادت في 28 فبراير/شباط، بعد يومين من مقتله، نشر المقالة التي يُعتقد على نطاق واسع أنها السبب في "قرار تصفيته". وفيها، قدّم تفاصيل بات كثير من الصحافيين الأوروبيين، حتى في أرقى ديمقراطياتها في الشمال، يخشون التطرق إلى "تغلغل المافيا الإيطالية بالتعاون مع طبقة الحكم في المقاولات والبنى التحتية بما فيها الزراعة".
تلك مشاريع تمولها الدولة، وبأموال الاتحاد الأوروبي، وباتت المافيا تدخل في مناقصاتها، وتتربح منها. بربطات عنق ينتقل مهندسون ومشرفون وعمال، بورش عمل من إيطاليا، إلى تلك الدول، لتنفيذ مشاريعهم. وفي بلده سلوفاكيا، أشار كوسياك بوضوح عبر مصادره، إلى قائمة أسماء وصور، وفكّك ما يشبه شبكة العلاقات بين "رجال أعمال" وسلطة متعاونة مع تغلغل المافيا في مشاريع في شرق البلد.
يوم السبت الماضي، تمّ إطلاق سراح 7 موقوفين إيطاليين متهمين. وكان الغضب اندلع تظاهراً شعبياً في براتيسلافا وغيرها، مع ارتفاع أصوات تطالب بإقالة الحكومة، رداً على قتل الصحافي. وتوعّدت الأخيرة القتلة، على لسان رئيس وزرائها وشرطتها، روبرت فيغو وتيبور كاسبار، وخصصت مليون يورو لمن يساعد في التحقيق. لكن إطلاق سراح المشتبه بهم، ومنهم رجال أعمال مشتبه بفسادهم، فاقم المشهد، وخصوصاً أن سجل فيغو مع الصحافة غير مبشر.
خيوط المافيا... تراخٍ أوروبي
الصحافي الإيطالي المتخصص لسنوات بمتابعة قضايا المافيا، روبرت سافيان، والذي يعيش بحماية أمنية منذ هددته عائلة "كامورا" المافيوزية بالقتل في 2006، كتب صراحةً أنه "لم يكن من مجال لإسكات كوسياك إلا بالقتل، فهذا هو أسلوبهم". ووفقاً لسافيان يبدو أنّ لجماعة نادرانغيتا Ndrangheta "كل القوة والتوسع للوصول إليه".
ولم يعد احتكار تهريب المخدرات هو ما تقوم به المافيا، بل توسعت، بحسب صحافيين مختصين في العصابات، إلى الدخول في مجال "البزنس"، مستغلةً ما تتيحه القوانين الأوروبية حول حرية الحركة.
ربطُ الصحافي المقتول لخيوطٍ وصلت للحكومة ومستشار في الأمن القومي في محيط رئيس الوزراء فيغو و"أعلى المستويات في المجتمع"، لم يكن جيدًا للفاسدين. وما أشار إليه تحقيقه عن أسماء، اعتبرها متابعون بمثابة "قنبلة موقوتة وضعت تحت حكومة الاجتماعي الديمقراطي في سلوفاكيا. فحتى بانسحاب وزير الثقافة المتهم بالفساد، ماريك ماداريك، الأمر لن يتوقف".
كالعادة، لم يهزّ الاغتيال المجتمع السلوفاكي فحسب. بل وصل إلى بروكسل، إذ قال مفوض الزراعة فيه، غونتر أوتيغر، بحسب صحيفة "دي فيلت" الألمانية، إنّ الاتحاد الأوروبي سينظر في القضية (التي أثارها كوسياك حول فساد بشأن أموال الدعم) وسنرى خلال أسابيع إذا ما جرى استخدام أموال الاتحاد في أعمال إجرامية".
لكن مقابل كل الكلام الأوروبي والمحلي عن ملاحقة القتلة، وخصوصًا اتضاح تشابك الخيوط بين السياسة والفساد والمافيا، لم يعد الشارع، والوسط الصحافي خصوصاً، يثق كثيراً بوعود بروكسل.
فقبل أشهر قليلة، أي في أكتوبر/تشرين الأول الماضي، قُتلت الصحافية الاستقصائية المالطية، دافني كاروانا غاليزيا (53 عاماً)، بعبوة وضعت تحت سيارتها.
كانت الصحافية نشطةً في كشف فساد السياسيين في بلدها، في ما عرف بأوراق بنما، وناقدةً لاذعةً لفساد الحكم، وتلقّي سياسيين رشىً من سياسيي أذربيجان، بالإضافة إلى تأسيس شركات وهمية لتبييض الأموال، واستعمال الجزيرة ملاذاً ضريبياً. ومنذ 2006، كانت الصحافية تتناول الفساد بين سلطة بلدها وزعماء المافيا وسلطة القذافي في ليبيا.
ليست مصادفةً أن تقتل غاليزيا بينما كانت تعمل على كشف "تغلغل المافيا وفساد السلطة". أتى قتلها بعد 5 سنوات من العيش تحت التهديد، وفقاً لما كتبت كورييري ديلا سيرا، والتي قالت "كتب أحدهم ذات مرة على صفحتها على فيسبوك تهديدًا مبطنًا: إذا كانت الكلمة جوهرة، فإن الصمت أثمن".
ارتفعت نبرة الوعيد، وأرسل الاتحاد الأوروبي شرطته "يوروبول" للمشاركة في التحقيق، لكن النتيجة ظلّت تراوح مكانها. وفي رأي الصحافي الدنماركي، ييبا كوفود، والذي كان يعمل مع غاليزيا عن تقرير المافيا، فإنه "لن يحصل تقدم طالما أن المنفذين معروفون، ويشاركون بأنفسهم في الجنازة".
شرق أوروبا... بيئة احتقار الصحافة
بالنسبة لكثير من الصحافيين في أوروبا، تشكل شرق أوروبا وروسيا، أوضح الأمثلة في "عالم الشمال" على مدى الاستخفاف بالصحافة في أجواء تحالف الفساد والسلطة، في دول في الجنوب.
وكشفت المنظمة الفيدرالية الأوروبية للصحافيين (EFJ)، في لقاء مع رئيسها نشرته مجلة "الصحافي" في كوبنهاغن في الأول من مارس/آذار الحالي، أنّ اغتيال الصحافي السلوفاكي هو قمة جبل الجليد في ما يعانيه الصحافيون في شرق أوروبا. والتحدي الذي يمثله ساسة تلك الدول للعاملين في الحقل، عبرت عنه "عدم جدية التوعد وتخصيص استعراضي لمليون يورو لمن يدلي بمعلومات (قبيل إطلاق المشتبه بهم السبعة)".
ولا يتردد رئيس الفيدرالية الأوروبية، الدنماركي موينز بليتشر بياوغوورد، في القول "(رئيس وزراء سلوفاكيا) روبرت فيغو يتحدث عن صون حرية الصحافة، فيما الممارسة تقول بأنه شخصياً يسيء لبيئة العمل الصحافي".
وفي الواقع، ثمة إشارات كثيرة عن المواقف الحقيقية لبعض سياسيي أوروبا الشرقية المستهترة بالصحافة. وليس رئيس وزراء سلوفاكيا روبرت فيغو، آخرهم. ففي نشاط ثقافي في 2016 حول رئاسة بلده لدورة الاتحاد الأوروبي، والكشف عن فساد مرتبط بالاحتفالية، وجه كلامه للصحافيين بالصوت والصورة، قائلاً: "بعضكم (الصحافيون) قذرون معادون لسلوفاكيا، وداعرون... ومتمسك بهذا التعبير، لا مشكلة أنكم تلحقون بأعناقنا، لكنكم لا تقدمون معلومات، أنتم تكافحون ضد الحكومة". ويعتبر رئيس الفيدرالية الأوروبية بأن مثل هذا الكلام لا يخلق أبدًا جوًا جيدًا للعمل "فمسؤولية السياسي أن يخلق بيئة عمل مناسبة للصحافيين".
وبالنسبة لمتابعي حرية الصحافة في أوروبا، فإنّ انتشار نفوذ المافيا وارتباطها بفساد بعض السلطات، بالإضافة إلى أن بيئة أوروبا الشرقية تخلق أجواء ترهيب وخوف لعمل الصحافيين، لا تبشر بكثير لحرية التعبير والصحافة وتدفق المعلومات بدون تزييف إلى المواطنين.
يقول كثير من الزملاء الغربيين إنّ "توعد القتلة" يُذكّر باغتيال الصحافيين الروس، إذ يمضي الأمر بلا نتائج، وكأننا أمام أنظمة تشبه تلك التي ترفع إصبعها بوجه العدالة غير آبهة بكل ردود الأفعال. ويتخذ بعض الصحافيين الأوربيين من مواقف بروكسل من انتهاكات في دول الاستبداد مثلاً على أن "الاهتمام بحقوق الصحافة والتعبير وتدفق المعلومات لا تعبر عن نفسها بتراخ في استهداف العشرات في القاهرة ودمشق والبحرين والمغرب وليبيا وبقية الدول التي يعامل فيها الصحافي كمعارض ومجرم".
ويرى برلمانيون ويساريون في السياسة المعارضة للنخبة الحاكمة حول أوروبا، أنّ تغلغل المافيا، وأحياناً تقديم صحافيين إلى محاكمات بتهمة "إعاقة عمل الشرطة"، كما حدث في الدنمارك مع تدفق اللاجئين في 2015، والتهديد غير المباشر لمن يتقصى عن الفساد، بالإضافة للاغتيال، أنّ الأجواء الأوروبية ملوثة بالكثير من فساد بات يسمح للمافيا اللعب بمسدساتها ومتفجراتها.