الطفولة السياسية... حركة شروق الشمس

03 مارس 2019
وُلد أطفال اليوم إبان الثورة الصناعية الرابعة (مايكل بروكستين/Getty)
+ الخط -
أطفال اليوم يحملون هموم الكوكب. يتظاهرون، ويعتصمون، ويُضرِبون، ويطالبون بإنقاذ الأرض. يتسلحون بهواتفهم المحمولة، ويرفعون أصواتهم عبر الوسوم (هاشتاغ)، ويدخلون المجال السياسي بحزم وسط الشعبويين والديماغوجيين.


أمام عيون عشرة ملايين مشاهد على "تويتر"، خاضت السناتور الأميركية عن الحزب الديموقراطي، ديان فاينستاين، سجالاً حامياً مع حشد مسلحٍ بيافطات وهواتف محمولة، يُطالبها بدفع عجلة التصويت على ما يعرف بـ "الاتفاق الأخضر الجديد"، وهو حزمة إصلاحات تسعى إلى التصدّي لتغيّر المناخ، وإحقاق العدالة الاجتماعية.
 
ما أحرج فاينستاين، وأخرج المشهد عن المعتاد الديمقراطي في الولايات المتحدة، ومُشابهاتها من ذوات الباع في حرية الرأي، هو أن الناشطين جُلّهم من الأطفال. هؤلاء أسّسوا أخيراً ما أطلقوا عليه "حركة شروق الشمس " Sunrise Movement؛ تجمّعٌ سياسيٌ للصغار واليافعين، يتبنّى أجندة مناخية ليبرالية، اشتراكية الهوى.
 
الإضراب المدرسي، مثلما هي التظاهرات التي يُنظمها التلاميذ، صارت من أنماط النشاط السياسي المألوف. تحت راية المناخ، شارك أكثر من خمسة عشر ألف تلميذ في تظاهرات عمت أرجاء بلجيكا منتصف الشهر الماضي، حينها عُطّلت المدارس ليوم. أما منذ قرابة الأسبوعين، فقد شملت إضرابات الصغار أكثر من ثلاثين مدينة بريطانية، نُصرةً لقضيّة البيئة.
 
في ملتقى دافوس الاقتصادي لهذا العام، اتجهت كل العيون إلى السويدية غريتا ثونبرغ، الناشطة المناخية الملهِمة، التي ستبلغ من العمر قريباً السادسة عشرة. هناك، ألقت خُطبة مؤثرة، جعلت من كلماتها تدق كل نواقيس الخطر، وتبث الرعب في نفوس الحضور من سياسيين واقتصاديين ورجال أعمال، إزاء خطر فناء يُحيق بالوجود البشري، إن لم يُتدارك الاحتباس الحراري.
 
ما الذي حدث يا ترى؟ والذي حذا بالطفولة لتدخل مؤخراً، وبجدّية، مُعترك السياسة؟
 
في غُمرة اليأس من السياسي التقليدي الذي بات أسير الحزبية ورهينة السوق الانتخابية، وفي حميّة البحث خارج الصندوق، صار الناخب الخائب يستجدي البديل. ففي مقابل الشعبويّين المغمورين، والديماغوجيين الانعزاليين الذين استقطبوا أصوات اليمين حول العالم، يظهر الطفل، عند الفريق الليبرالي؛ النموذج الأسمى، والأنقى والأصدق، للشخصية الخارجة على المؤسسة الرسمية Anti Establishment .
 
وُلد أطفال اليوم إبان الثورة الصناعية الرابعة. إدراكهم للوجود مُختلفٌ كليّاً عن آبائهم، إذ لا يرون العالم عالمين؛ واحدٌ أصلي وآخر افتراضي، وإنما عالمٌ واحد؛ الإنترنت أثيره مثلما هو الهواء، والسوشيال ميديا ماؤه وأرجاؤه مثلما هي القارات والمُحيطات. نشؤوا في بيئة ليس المحمول وكاميراته فيها مجرد أداة، وإنما امتدادٌ وجوديٌ لجسد المرء، عضوٌ (مستقلٌ) من أعضائه. 

 
بحسب جيمس فلن، الباحث في علم النفس من جامعة أوتاغو النوزيلاندية، فإن مُعدل ذكاء الأطفال يزيد كل عقد، بمقدار ثلاث نقط على مقياس الذكاء IQ. يعزو فلن تلك الزيادة إلى عوامل بيئية أكثر منها تطوريّة جينيّة؛ نجاعة الوقاية والعلاج من الأمراض، التغذية السليمة، ارتفاع مستوى المعيشة. إضافةً إلى المحفّزات والمُنبهات من حواسيب وشبكات التواصل الاجتماعي والمعرفي.
 
الأطفال في الغرب والولايات المُتحدة هم أكثر السكان تنوّعاً عرقياً، تنوّعٌ آخذٌ في النمو والاضطراد. بخصوص المجتمع الأميركي. وبحسب إدارة الإحصاء التابعة لدائرة الاقتصاد والتجارة في الولايات المتحدة Census، بحلول عام 2020 سينخفض عدد الأولاد البيض الأنقياء إلى أقل من النصف، مقابل ارتقاء عدد الأولاد مُتنوّعي الأعراق خلال العقدين المقبلين، بمعدّلٍ يفوق الضعف.
 
إذاً، الجيل الجديد نوعيّ الذكاء، مُنكشف على مناهل معرفية بسعة البسيطة، لم تعد تقتصر على المدرسة والعائلة، يُحسن استعمال وسائل الاتصال مثلما يُحسن المشي، متأهبٌ إعلامياً، مُحاط بالكاميرات من كل الجهات وعلى مدار الساعة. واسع المدارك، سريع الاستجابة، وفوق كل هذا، يتمتع برحابة غير مسبوقة من الحرية، سواءً في البيت أو في المدرسة، تشمل كل من التعلم والتصرف والتعبير.
 
ثم أنه جيل متنوع بالطبيعة، عرقياً وثقافياً، مُقبل على الآخر ومنفتح عليه، فالآخر يسكن فيه، لا يرى في شيخوخة المجتمع خطراً يعنيه ولا في الهجرة وحشاً يُخيفه. ليس لديه حنين ماضوي، وإنما قلقٌ وجودي إزاء قضايا عالمية عابرة للدولة والجماعة، كالتغيّر المناخيّ والفقر والعلاقة بالتكنولوجيا. جيل لا يسعى إلى بعث ما كان، وإنما، يبحث عن تحسين ما سيكون، حيث سُيقيم.  
 
إلا أن خصوصية الرسالة حين يحملها الطفل في المجتمع الغربي تتجاوز ما سبق ذكره، وتتعدّاه إلى درجة القداسة. ففي دول إنتاجية قائمة أساساً على رأس المال البشري، وتُعاني انخفاضا حاداً في معدلات الإنجاب، تُنذر بقريب تقلّص تعداد سكانها إلى حد قد يُنهي أثرها الحضاري، يُصبح الطفل في الضمير الجمعي هو الأمل في بقاء الجماعة والرمز لاستمرارها.
 
ألمانيا مثلاً، أول الدول الأوربية صناعةً واقتصاداً، إن هي بقيت سائرةً على ذات المؤشر، فستفقد مع نهاية القرن الحالي عشرة ملايين نسمة من أصل إجمالي عدد سكانها. وضع هذا الخطر السياسة الألمانية، إزاء فتح الأبواب أمام اللاجئ والمهاجر، في سياق الضرورة الاستراتيجية قبل الإنسانية. بالتوازي، تسعى الحكومة إلى التشجيع المواطنين على الإنجاب بكل الوسائل والحوافز.
 
الضفة المقابلة من الأطلسي؛ الولايات المتحدة، لا تبدو أفضل حالاً، حيث سجّل معدّل النمو السكاني لعامي 2017-2018 هبوطاً هو الأشد منذ ثمانين عاماً، أسبابه تدنّي الخصوبة وشيخوخة المجتمع، إضافة إلى - وهنا المفارقة - انخفاض حاد في نسب الهجرة، بعضها نتيجةَ القيود التي ما فتئت تتمخض عن سياسة الانعزال والإقفال وشيطنة الهجرة، التي تتبنّاها الإدارة الأميركية الحالية.
 
انطلاقاً من هذا الواقع، تكتسب حماية الطفل في البلدان الغربية قيمة جوهرية، فالإعلام مُسهبٌ في تغطيته الانتهاكات بحق القُصّر، خصوصاً في بلدان أوروبا الغربية، وإزاء هذا القلق السياسي-اجتماعي المُستمر، تحاول الحكومات سن المزيد من التشريعات لحماية الأطفال سواءً  بين الأسرة أو في المدرسة، والأهم، ضمن مجال الإنترنت وعلى منصّات السوشيال ميديا.
كان لزاماً على السيناتور فاينستاين إذاً، أن تصغي إلى مُراجعيها الصغار، لم يكن في مقدورها أن تتجاهل حضورهم أو أن تتجاوز مطالبهم. أُخذ عليها، من مرئي ومسموع ما تسرّب على تويتر، تعجرفها وتعاليها في إدارتها للحوار، لذلك تلقّت الوفير والمستحق من الاستهجان والنقد، إلا أنها في الأخير، ظلّت مُلزمة ومُلتزمة باستقبالهم والاستماع إليهم، إدراكاً منها وإقراراً بأن الطفل اليوم هو القيمة والثروة.
 
يروي الفيلم القياموي المليء بالنبوءات Children Of Men (أطفال الرجال) للمخرج المكسيكي ألفونسو كوارون، من إنتاج عام 2006، كيف أنه وفي مستقبل غير بعيد، مليء بالعنف والقلاقل، ستعاني الإنسانية من ظاهرة عقم عام تهدد الحضارة، وكيف أن امرأة أفريقية واحدة تحمل طفلاً في أحشائها، تغدو معجزة تسعى كل حكومات العالم إليها أملاً في أن تُنقذ البشرية.
 
أما العالم العربي، فقد عُذّب الأطفال في السجون حتى الموت كالسوري حمزة الخطيب مثلاً، ورمتهم الأمواج جثثاً باردة على شواطئ اللجوء والهجرة كـ إيلان الكردي، وهم يقضون جوعاً في اليمن. أجيالٌ كاملة في العراق وسورية، لا تعرف سوى الخيمة شكلاً للبيت ولم تر يوماً روضة أو مدرسة. قد بلغ يأس الإنسان من الإنسان حداً، ربما لم يعُد يُجد معه، سوى التطلع إلى الطفل؛ صورة المستقبل.​