Starlighter لكنان العظمة... أن يتحوّل الضوء إلى موسيقى

11 سبتمبر 2023
صدر العمل بالتشارك مع رباعي "بروكلين رايدر" (شيرفين لينز)
+ الخط -

اللافت في ألبوم Starlighter، الذي صدر نهاية الأسبوع الماضي، لعازف الكلارينيت والمؤلف السوري كنان العظمة بالتشارك مع كلّ من رباعي "بروكلين رايدر" الوتري الأميركي، وعازف الإيقاع السويسري ماتياس كونزلي، هو تعدد طبقاته.

ليس الطبقات المكوِّنة للمجال الموسيقي وحسب، وإنما الطبقات المفاهيمية أيضاً، ليس في تعددها وتداخلها ضمن المجال الفكري وحده، وإنما تداخلها أيضاً مع تلك المكونة للمجال الموسيقي، فتنشأ بين الموسيقى والمفاهيم وحدة تكوينية، يتمخّض عنها مُخرجٌ فنيٌّ يتوجه إلى كليّ العاطفة والعقل معاً، بضمير المفرد المخاطب.

تندر هكذا درجة من التركيب، هكذا مدّ من التعقيد، وهكذا وحدة في المحتوى وشمولية في الخطاب، لدى إنتاجات موسيقى العبور (Crossover) العالمية، والشرقية منها على وجه الخصوص، أكان لجهة الكتابة الموسيقية والأسلوبية الأدائية، أم الخلفية المفاهيمية التي تشكّل ظهيراً لها. ذاك أن كلّاً من العظمة وأعضاء رباعي "بروكلين رايدر"، مؤهل من الناحية الفنية والفكرية والحرفيّة لتجاوز الحدود التمثيلية المُستترة، التي باتت تفرضها المؤسسة الثقافية والإعلامية الغربية السائدة على مشاريع التلاقح الفني أو الأدبي ما بين "الشرق" و"الغرب".

فليس الإصدار الجديد بألبوم جاز - شرقي أو "خليط" (Fusion)، ولا هو بموسيقى كلاسيكية (غربية) صرفة، ولا حتى موسيقى شرقية بلبوس تقليدي أو عصري، ليس من حيث الشكلانية ولا الهوية، بل هو كما صرّح العظمة، من على كُرّاس الألبوم: "استلهامٌ لعددٍ من التقاليد المختلفة، من دون أن يَحُدَّنا أيٌّ منها". هكذا، يبدو Starlighter كما لو كان مسعى من أجل العبور خارج "العبور" بوصفه جنساً فنياً رائجاً، وإطاراً تمثيلياً سائداً، يوضع في تصرف فناني "الشرق" و"الغرب"، إن شاؤوا التعاون بينهم، وإن تمنّوا لتعاونهم أن يُسلّط عليه الضوء.

يشكّل الضوء من الناحية المفاهيمية الثيمة الرئيسة في المقطوعة المُدرجة ثانياً، والتي منحت الألبوم اسمه Starlighter. من خلالها، يستوحي مؤلفها كولن جاكوبسن، عازف الكمان الأول ضمن رباعي "بروكلين رايدر"، عملية التركيب الضوئي التي تتغذّى النباتات بواسطتها مُحولةً الضوء إلى طاقة. إذ يُسقِطُ جاكوبسن سيرورة العملية البيوفيزيائية، المعقدة والمدهشة، على قالب السوناتا، ثلاثي الأجزاء، والمتأصّل في كانون (Canon) الموسيقى الكلاسيكية الغربية، القائم على عرض عدة عناصرٍَ موسيقية، فتحويلها بإخضاعها إلى تفاعل تشكيلي هارموني وإيقاعي، ثم إعادة عرضها في حلّتها الجديدة، بعد تحوّلها.

يُمكن تأوّل الكلارينيت صوتاً للضوء. يخترق كانڤاس الوتريات، نسيجها أصواتُ كلّ من آلتي الكمان، الفيولا والتشيللو. أما الوتريات، فَتقرأ في ضوء هذا التأويل، كالبيئة الطبيعية إثرَ تأثّرها بالضوء، فتبدأ العناصر المكونة لها بالتفاعل. لأجل عكس حيوية التفاعلات بلغة الموسيقى، توظّف الكتابة المينيمالية. إلا أن المينيمالية هنا تقف عند حدود الأدوتة، مقتصرة على استخدام مُفرداتها الديناميكية، بغية تشكيل وحدات وخلايا موسيقية تجسّد آليات الطبيعة، ولا تذهب بعيداً فتصبح سمة العمل العامة. في غمرة الحركية التي أنتجها التحام الضوء بالعضوية، تغيب العوالم السلميّة تحت وطأة الصخب الناجم عن سير العملية البيوفيزيائية. بيد أنها ستُستعاد، عند الاقتراب من انتهاء المقطوعة، كمؤشَر على ولادة الحياة من مخاض التفاعل ومآل التحوّل.

وكما حلّ الضوء بالعضوية في Starlighter، فاتّحد بها، يلتقط العظمة وجْد الاتحاد باللحظة الحاضرة في مؤلّفه المعنون In The Element المُدرَج أوّلاً ضمن تراكات الألبوم، والمكتوب لآلة الكلارينيت برفقة رباعي وتري ومجموع آلات إيقاعية. إذ تؤرِّخ المقطوعة لأحداث خبروية عاشها المؤلِّف، تجلّت له كتجربة صوفية تكشّفت سلسلةً من ثلاثة فصول، فخصّ كل فصلٍ منها بحركة منفصلة ضمن مؤلّف واحد. تُستهل الحركة الأولى المعنونة Run بجملة لحنية للكلارينيت المُنفرد، تُصوّر استبطاناً يتتبّع إحساساً جوّانيّاً. لأجله، استُدعيت أجناس المقامات الشرقية، لما لبُعيداتها، أي الربع تون ذي الطبيعة اللامعيارية، من قدرة على عكس القلق الوجودي.

يستمر القلق الوجودي في تشكيل معالم الحركة الثانية من العمل، تحت عنوان Rain. هنا، لا يسعى العظمة إلى توصيفٍ، أو تأويلٍ موسيقيّ لظاهرة هطول المطر، لا من حيث المشهدية الروائية، ولا من حيث الإبستمولوجيا، أي الخبرة المعرفية، وإنما ينصرف داخلاً إلى سبر أغوار النفس المختبرة لحظةَ الهطول، فينقل ما يستثيره المطر من استجابة عاطفية وما يستدعيه من تأمل في الذات وفي الذاكرة. يُعبّر عنه بالانقباضات النغمية المستوحاة من المقام الشرقي، وبالمسطحَات الطيفية الهادئة التي تُوزّع للوتريات، لتغرق فيها الكلارينيت تارة، وتارةً لتعوم.

تُجسّد الحركة الثالثة والأخيرة المعنونة Grounded بدء تبلور مُخرجات الرحلة الذاتية، التي أُرِّخ لمسارها على مدار كل من الحركتين السابقتين. إذ إن العظمة، إثر زيارة إلى مدينة الولادة والنشأة دمشق، قام بها سنة 2018 بعد غياب فرضته الحرب السورية، يستعيد الوطن، ليس بالمعنى المكاني والجغرافي وحسب، وإنما بالإسقاط الوجودي، الأمر الذي ولّد لديه حالاً من التأرّض في الحياة. اختار أن يُعبّر عنها موسيقياً، بأجواءٍ حيوية، تُشكّلها الإيقاعات الراقصة والجمل الصاخبة؛ فالإحساس بالتأرّض بالنسبة إليه، ليس سكينةً وطمأنينة بالضرورة، وإنما دفعة وانطلاقة.

اللافت أيضاً عند الاستماع إلى ألبوم Starlighter هو مقدرة الثيمات التمثيلية على التسلل إلى التراكات، سواء عبر الأطر المفاهيمية أو أنماط الكتابة والأداء الموسيقيين، وسواء بخيار واعٍ من الفنان في توظيفها، أم بخيار واعٍ في تجنّبها. ففي حين استوحى جاكوبسن موضوعة مقطوعته، التي وهبت الألبوم عنوانه، من العلوم الطبيعية والفيزيائية، وبالتالي اكتفى لأجل التعبير عن ذاته بمنظور شمولي عالمي، يستحضر العظمة في مقطوعته In The Element هاجس الهوية، من قلق الترحال والعودة إلى الوطن، وإن عبر منظور ذاتي إنساني، وإسقاطات وجودية.
 
إلا أن الموسيقى لا تقتصر على المفاهيم والماهيّة فقط، وإنما تشمل أيضاً الأدوات والكيفية. لذا، يكفي الألبوم أنه استطاع تجاوز الحدود التمثيلية، بتعدد طبقاته المفاهيمية والموسيقية، وسعة مدياته التعبيرية، وبالتالي العبور، من حيث الشكل والمضمون، خارج إطار "العبور"، وإن بقيت الأطر السائدة والعناوين، إلى حين، كما هي.

المساهمون