3 أفلام عن جيل جديد في أوروبا: قسوة الواقع ومراراته

10 ديسمبر 2021
"أخوات" للمقدونيّة دينا دوما: فيلمٌ مُفجع (الملف الصحافي)
+ الخط -

من المراحل العمرية المُهملة جداً في السينما العربية، مرحلة ما قبل المراهقة. أي الفترة الممتدّة بين نهاية سنّ البلوغ (12 ـ 14 عاماً تقريباً)، وبداية مرحلة المراهقة، التي تمتدّ أحياناً إلى منتصف العشرينيات. رغم الاختلاف البيّن في مستويات الأعمار بين الشرق والغرب، باتت هذه المرحلة، منذ أعوام، مثيرة لاهتمامٍ بالغ من مختلف سينمات العالم، إذ تُطرح مشاكلها بجدّية وصدق وواقعية. لأهميّة هذه الأفلام، لا تكاد تخلو منها مهرجانات السينما، كـ"مهرجان برلين السينمائي"، الذي يُخصّص مسابقة بها باسم "14 +"، يتضمّن برنامجاً كبيراً وثريّاً، ويُشكِّل لجان تحكيم مهمّة، ويمنح جوائز مرموقة.

رغم وحدة مواضيع هذه المرحلة ومشاكلها، لا ينتهي الاشتغال عليها وعلى تنويعاتها. هناك جديد دائماً. لكنّ اللافت للانتباه، أخيراً، كامنٌ في نبرة قاتمة في الطرح الجديد لمواضيع شباب المستقبل ومشاكلهم، ولمقاربة تلك المواضيع والمشاكل، ولا سيما في أوروبا.

في 3 أفلام حديثة الإنتاج، مُكرّسة لهذه المرحلة العمرية ـ "أخوات" (مقدونيا) لدينا دوماً، و"الصيف الخالد" للفرنسية إيميلي أوسل، و"أتلانتس" للإيطالي يوري أنْكَراني ـ تظهر بوضوح تلك النبرة السوداوية المتشائمة تجاه مستقبل هذا الجيل. فرغم تناولها للسائد، عن الانطلاق والتمرّد والجموح ومشاكل الأهل والمجتمع والتطوّر التكنولوجي، ومُقاربة المحرّمات، وما يُصاحب هذا كلّه من مشاكل وعواقب وخيمة غالباً، يُلاحَظ، في الأفلام الـ3، إضافة إلى نبرة الحزن والأسى والضياع، حضورٌ قوّي للموت، كحالة وموضوع ورؤية.

في "أخوات"، تناولت دينا دوما قضية الصداقات الخادعة والسامّة، ومشاكل الفتيات في عصر وسائل التواصل الاجتماعي، وتوظيفها كأداة تنمّر ومؤامرات وتهديد وانتقام، ما أفرز فيلماً مُفجعاً، نال جائزة خاصة من لجنة تحكيم مسابقة "شرق الغرب"، في الدورة الـ 55 (20 ـ 28 أغسطس/آب 2021) لـ"مهرجان كارلوفي فاري السينمائي الدولي". تجري أحداثه في شمال مقدونيا: بين يانا (ميا جيرو) ومايا (أنتونيا بلازلكوسكا) صداقة قوية. تذهبان معاً إلى السباحة والغناء والاحتفالات. يانا أطول من مايا، وشخصيتها أكثر سيطرة. هذا جيدٌ، لأنّها تدعم مايا، بعد انفصال والديها أحدهما عن الآخر. تتراسلان باستمرار، وتصوِّران حياتهما النموذجية معاً، وتتبادلان الصُّور.

تركز دينا دوما على كيفية تعكّر الصداقات سريعاً، وتحوّلها إلى النقيض، وانقلاب الحبّ إلى كراهية وبُغض وانتقام. الطبيعة المتقلّبة للمياه بازرة في أكثر من لحظة: حوض سباحة، ضفّة نهر أو بحيرة، إلخ. يتجلّى دور المياه في أنّه أداة انتقام، تستغلّها الفتاتان ضدّ غريمتهما، التي تُقتل من دون قصد، ما يُبدّل المشاعر من تنافس وغيرة وحسد وحقد، إلى حيرة وتردّد وخوف وتأنيب ضمير، ومستقبل غامض ومجهول إذا اكتُشف الأمر.

في "الصيف الخالد"، تحضر المياه أيضاً، كما البحر والسباحة، والابتعاد عن العواصم والمدن الكبرى. يبدو الاستمتاع بالصيف، على شاطئ في جنوب فرنسا، مُستمرّاً إلى الأبد. كذلك الاستمتاع باللحظات العابرة الأخيرة من مرحلة طفولة وبلوغ، يودّعها أصدقاء، يستقبلون مُراهقةً لا يعرفون كثيراً ما تنطوي عليه.

هذا الصيف ـ الخالي من الهموم، بأيامه غير المنتهية من الكسل والخمول والليالي، التي يبدو فيها أيّ شيء في العالم مُمكناً ـ يتعقّد وينهار فجأة. هؤلاء المؤمنون بأنْ لا شيء يُمكن أنْ يغلبهم، حتى البحر، الذي يجلسون أمامه ويسبحون فيه، ينقلب إيمانهم بغتة، بعد تحوّل البحر من صديق إلى عدوّ قاتل، بعد خسارتهم غير المتوقّعة لأعزّ صديقة، مايا (نينا فيلانوفا)، الأكثر حيوية وانطلاقاً وانفتاحاً بينهم، والعارفة أسرارهم، ما يضعهم إزاء أقسى الاختبارات الحياتية المؤلمة. تنقلهم الصدمة من براءة الطفولة إلى متاعب تتجاوز قدراتهم وأعمارهم.

 

سينما ودراما
التحديثات الحية

 

في "الصيف الخالد" ـ الفائز بالجائزة الخاصة للجنة تحكيم "مخرجو الحاضر"، في الدورة الـ74 (4 ـ 14 أغسطس/آب 2021) لـ"مهرجان لوكارنو السينمائي الدولي" ـ ترصد إيميلي أوسل ردود الفعل تجاه صدمة عميقة كهذه، في تلك المرحلة العمرية الدقيقة. صدمة الموت، وألم الفَقد، ووحشية الواقع، وكيف يمكن البقاء على قيد الحياة، والعودة في النهاية إلى ممارسة حياة طبيعية، ومغالبة وهن الجسد وهواجس العقل، البعيدين والعصيّين على كلّ سيطرة. وتركِّز على إبراز الفراغ الذي يبتلع البراءة، وما يعقبه من بلادة ولامبالاة، إذْ يُقاتل هؤلاء الصبية، كلّ بمفرده وعلى طريقته، للبقاء واستئناف الحياة. بشكل تراكميّ، يُعدّ الفيلم استكشافاً ذكياً للمشاعر المتناقضة، التي تحدث في كلّ شخص، وتطارده، تأثّراً بفقدان أقرباء.

في "أتلانتس"، الذي تدور أحداثه كلّها في المياه، يدمج يوري أنْكَراني أسلوبه التسجيلي المعهود بأسلوبٍ روائي. بهذا الدمج، لا يُقدّم مدينة فينيسيا، المعروفة والمألوفة، بل بشكلٍ مختلف، ممثلة بجزيرة "سانت إيراسمو"، إحدى الجزر غير المشهورة إطلاقاً في أقصى شمال فينيسيا السياحية، الممتلئة بمساحات خضراء وأشجار وارفة. مياه وبحر وسباحة، وابتعاد عن العواصم والمدن الكبرى، وهذا المشترك مع الفيلمين السابقين واضحٌ جداً في "أتلانتس".

اختار أنْكَراني شخصاً حقيقياً لتأدية دور لصيق بالشخصية، محور فيلمه، المعروض في قسم "آفاق"، في الدورة الـ78 (1 ـ 11 سبتمبر/أيلول 2021) لـ"مهرجان فينيسيا السينمائي الدولي"، الذي يتابع دانيلي (دانيل باريسون) بروتينه اليومي المملّ. شاب مُشتّت وحزين وصموت. يحيا حياة جوفاء ورتيبة، لكنّها مندفعة أحياناً. مصدر الاندفاع نابع من زورقه البخاري الصغير، القابع فيه دائماً، ومن الاستمتاع بالموسيقى الغريبة الصاخبة. لا يُعرف عمل دانيلي، أو إذا كان يدرس أو لا. المعروف عنه أنّه يريد بلوغ المرتبة الأولى في السرعات القصوى، بين أقرانه.

علاقته بصديقته، التي تحبّه وتدعمه، غامضة جداً. ليس فيها قدر من الشغف والاهتمام والحسّية، ربما لعدم شغفها بهوايته، وبما تمثله من خطورة وتهديد. بين حين وآخر، يقترف دانيلي سرقات مختلفة، ويتناول المخدرات، أو يُهرّبها. طبعاً، هناك قيادة الزورق بسرعة خطرة، تتجاوز القوانين المسموح بها. هذه سمة أساسية في روتينه اليومي، تجعله يدفع الثمن لاحقاً.

بخلاف هذا، لا يفعل شيئاً ولا يفكر في شيء. حتّى تخلّيه عن صديقته، وسرعة ارتباطه بأخرى، غريبة الأطوار، يحصلان من دون مُقدّمات أو مُبرّرات. لا يكترث بالتفكير في الأسباب والتبعات. حياته وعقله وتفكيره في عالم مغاير. هكذا يبرز سرّ وحدته الدائمة، والابتعاد عن الرفاق، غالباً. لذا، تعمّد يوري أنْكَراني إخراج الفيلم كنصٍّ مفتوح ومجرّد، لا يبدو فيه أيّ تأويل للشخصية، أو تفسير من أيّ نوع لسلوكها. تعمّد أيضاً خلق حواجز بين المشاهدين وبينها، وبين عوالمها، ما مهّد لمصيرها المؤلم والمحزن.

المساهمون