- الفيلم يستكشف تجربة فريق صحفي من "وكالة أسوشييتد برس"، موازنًا بين مهنية الصحافة والتأثر الإنساني بالأحداث، مسلطًا الضوء على الأخلاقيات الوطنية والصراع الداخلي للمراسلين.
- "20 يومًا في ماريوبول" يُبرز قوة الصورة في نقل الوقائع المأساوية، مع التركيز على الأثر الإنساني والفني للحرب، مُظهرًا الصمت المُثقل بالصدمة والألم للناجين وقدرة السينما الوثائقية على نقل الحقائق.
يَحمل المخرج والمراسل الحربي مستيسلاف تشَرنوف (1985)، خامات ما صوَّره ووثّقه في 20 يوماً، في مدينة "ماريوبول" الأوكرانية، إلى زميلته ميشال ميزنير، طالباً منها أنْ تصنع فيلماً وثائقياً من تلك الخامات.
هكذا ربما يتصوّر من يُشاهد "20 يوماً في ماريوبول" (2023)، الفائز بـ"أوسكار" أفضل فيلم وثائقي طويل (النسخة 96، 10 مارس/ آذار 2024)، ويتخيّل أيضاً كيف انبثقت فكرة إنجازه. تقبل المونتيرة المهمّة، وتشرع بعملية توليف خامات فيلمية مبعثرة، بُثَّ بعضها في وسائل إعلام دولية، أثناء حصار الجيش الروسي للمدينة، وبعد تدميرها وتهجير سكّانها منها، لتصنع فيلماً سينمائياً مذهلاً.
في غرفة المونتاج، تجري عمليات توليف الشهادة الحيّة لفريق صحافي صغير، يعمل في "وكالة أسوشييتد برس" (المخرج والمصوّر الفوتوغرافي يفغيني مالوليتكا، والمنتجة فاسيليسا ستيبانينكو)، ويُقرّر البقاء في المدينة أثناء اقتراب الجيش الروسي من أطرافها، في 24 فبراير/ شباط 2022. بقبوله التعليق، باللغة الإنكليزية، على مجريات الفيلم، يُدخل تشَرنوف وظيفته كمراسل حربي، عليه الالتزام بقواعد المهنة، بكونه مواطناً أوكرانياً، تملي عليه أخلاقياته الوطنية نقل ما يشاهده ويصوّره في اللحظة ذاتها إلى العالم، ليعرف حقيقة ما يجري في المكان الذي ينقل منه الأحداث.
هذا يعيد طرح السؤال الإشكالي عن الحدود الفاصلة بين مهمة المراسل الحربي وبينه هو كإنسان يتأثّر بما يرى، ويجد نفسه أحياناً مُلزماً بالتدخّل وتجاوز قواعد المهنة.
لا تمنح المدينة المنكوبة البطر النظريّ مجالاً. اللقطة الأولى من المشهد الأول تظهر فيها دبابة تدخل المدينة، كتب على صفائحها الحديدية حرف Z، وتُغيّر مسار مدفعها، مُوجّهة إياه إلى شبّاك في الطابق السابع من المشفى الوحيد، الذي ظلّ يعمل، ويتّخذ منه فريق العمل الصحافي موقعاً يصوّر منه مجريات الاجتياح الروسي للمدينة. هذا يدفع الفريق إلى الخروج من المشفى سريعاً، والبحث عن مكان آخر أكثر أماناً له. الانتقال من موقع مدمَّر إلى آخر، يكفي وحده كي يكتشف فريق العمل أنّه أضحى وسط أتون حربٍ عليه توثيق وقائعها.
الغريب أنّ صانع التوثيق، أثناء انطلاق الحرب، يثبّت جملة مُثيرة للحيرة، سمعها من أحدهم: "الحرب لا تبدأ بالقنابل، بل بالصمت". من الأرشيف، يأخذ التوليف مقطعاً من خطاب الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، يعلن فيه بدء "العملية العسكرية الخاصة" ضد أوكرانيا، دفاعاً عن وجود بلده المُهدّد منها، ويؤكّد أنّ جيشه لن يتعرّض للمدنيين، ولن يمسّ البنى التحتية لأي مدينة يدخلها.
تَصْدُم وقائع الخراب الهائل المتعمَّد، وقتل سكّان المدينة الأبرياء، الفريقَ الصحافي. من دون تفكير بما ستؤول إليه خامات تصوير أعضائه لاحقاً، تفضح مشاهداتهم الحية وتوثيقها أكاذيب الرئيس. أكثر ما يمنح عملهم مصداقية المشافي المتحوّلة إلى نقطة تعبير مركزية في الفيلم، فكان وجودهم فيها مهمّاً مهنياً، ولاحقاً سينمائياً، لأنّ الخامات تصبح الركن الأهم في "20 يوماً في ماريوبول". فيها، تفقد الكلمات الكثير من قوّة تعبيرها، وتتخلّى برضى عن بعض ما تملك للصورة القادرة على قول أشدّ الوقائع تراجيدية، ببساطة مُدهشة، مصحوبة بصدمات مخيفة في آنٍ واحد.
كلّ لقطة لطفل مُقطّع الأطراف، أو لأمّ حامل تموت مع جنينها بفعل الإصابة بقذيفة مدفع، تفرض صمتاً على المشهد المُصوّر بكاميرات تلفزيونية مُهتزّة، لكنّها ثابتة في قوّة قولها. صمتٌ حاضرٌ كالذي يحلّ لحظة رمي جثث الموتى في حفرة كبيرة. ربما المُخيِّم نفسه على ذاك المشهد المؤلم والحزين يقصده تشَرنوف بجملته الأولى. في "ماريوبول"، يلازم ذلك الصمت النابع من الصدمة أصوات دويّ المدافع، ويتداخل معها. يتغلغل في النفوس، تاركاً فيها وجعاً.
بقدرٍ من التشابه معها، كانت تفعل التقارير القصيرة المُصوّرة التي يبعثها فريق العمل إلى الوكالة، ومنها يعرف العالم ماذا يحدث لمدينة صغيرة تُدَكّ بلا رحمة بالمدافع والقنابل، ولا يجد سكّانها أحداً يشكون له أمرهم، سوى الفريق الذي يصير وسيطهم إلى العالم، وعليهم حمايته.
يطلب الأطباء منهم تصوير الأجساد الممزّقة وجثث الموتى من المدنيين. يساعدونهم على إيجاد مناطق فيها تغطية لشبكة الاتصال، يُمكن منها نقل مَشَاهد قصيرة لما يجري إلى مكاتبهم خارج أوكرانيا، كي يضمنوا وصولها قبل انقطاع تغطية الشبكة، التي يُقلّلون من ثقل حجمها وزمنها، الذي لا يتجاوز ثواني قليلة. بعد أشهر، تتحوّل التقارير إلى جزءٍ من مسار الفيلم الوثائقي، الذي يكتمل بإضافةِ الخامات المهرّبة سرّاً خارج الحدود. كما في أفلام المغامرة، يتكاتف الجميع ـ وهم تحت وطأة قصفٍ مخيف لا يتوقّف عليهم وعلى مدينتهم ـ لنقل تلك الخامات وأصحابها إلى خارج البلد. مغامرة نقلها، عبر المرور على حواجز الجيش الروسي، مُخيفٌ التفكير فيها. لم يخطر على بال تشَرنوف أنّ ما يصوّره (تصوير الفيلم وكتابته له أيضاً) سيتحوّل إلى فيلمٍ مُذهل.
قبل حصوله على "أوسكار"، توقّع نقّادٌ إمكانية وصول الفيلم إلى الترشيحات النهائية، لا لكونه كاشف حقائق وفاضح أكاذيب فقط، بل لأنّ فيه تجمّعت عناصر فنية وإنسانية، جاء بعضها صدفةً، أو بسبب الحضور النادر للّحظة التي تتحوّل فيها الأشياء البسيطة إلى فعلٍ مؤثّر، وأحياناً إلى مُنجزٍ سينمائي، على بساطة اشتغاله يضحى مَثَلاً على قدرة الوثائقيّ في نقل أشدّ الحقائق إيلاماً، من دون أنْ يفقد جمالياته، أو يُسطِّح عمقه.
مشهد نهب بعض سكّان المدينة محلاتٍ تجارية مثلٌ على هذا. لو غاب هذا المشهد من مساره، لبدا كما لو أنّه يتعمّد إلغاء ما في دواخل البشر من قوّة شرّ، تزداد في الحروب حدّة. وعلى عكسها، يظهر بعض الناس شجاعةً واتزاناً إنسانياً، في أحلك لحظاتها ظلمة وأشدّها قسوة.
هل نضيف إلى هؤلاء صنّاع الوثائقي؟