مشكلات الأمس لم تعد تشبه مشكلات اليوم. ربما تتقاطع بعضها مع بعض، لكنّها اختلفت وتغيّرت بسبب عوامل وسياقات كثيرة، أهمها التقدّم المعرفي الذي خلق أضراراً جانبية عدّة، وانعكس سلباً في مجالات مختلفة، وأثّر على أساليب التربية والتنشئة. من جهة أخرى، تقلّص الزمن، ولم يعد الوقت كافياً لعيش حياة عادية. انحصرت الخيارات في أبعادٍ قليلة، ما أوجد سباقاً متواصلاً ومحموماً، وجعل طريق الرحلة ضبابية وغير مُكتَشَفة. يمكن لتلك السرعة أنْ تُفوّت أشياء طبيعية وجميلة كثيرة، لا يُمكن للعين العادية التمعّن فيها، أو رؤيتها كما ينبغي.
المحزن في هذا، أنّه لا يمكن العودة إلى ما فاتنا مجدّداً، واكتشافه ثانيةً، لأنّه ربما نقف على مسبّبات المشكلة، لكنّ هذا لا يُصلحها كما ينبغي.
يتناول "ولا كلمة" (2023)، للسلوفينية هانا سْلاك، هذه المعضلة الأخلاقية، أو المعادلة الحياتية الراهنة والصعبة، ويُحلّلها ويُركّز عليها في سياق فني وجمالي، يجعله أحد الأعمال السينمائية المهمة المنتجة نهاية العام الفائت، علماً أنّه معروضٌ في مسابقة الأفلام الروائية الطويلة، في الدورة الـ6 (14 ـ 21 ديسمبر/كانون الأول 2023) لـ"مهرجان الجونة السينمائي".
تنعكس أهمية "ولا كلمة" في محتواه، الذي يُظهر مشكلات الراهن، عبر قتل عملية التواصل، وإقامة الحواجز بين أفراد الأسرة الواحدة، وهذا أحد أمراض العصر، حاولت سْلاك (كاتبة السيناريو أيضاً) التطرّق إليه بطريقة نبيهة، بخلقها ورسمها نموذجاً عملياً، جسّد تلك الفكرة في بعض صُورها، مع الأم نينا (مارن إيغرت)، رئيسة فرقة موسيقية سمفونية، منشغلة بالتحضير لعرض مهم، ما جعلها تتعرّض لضغوط كبيرة من مديرها، لإنجاح العرض الموسيقي الذي تُقدّمه الفرقة أمام جهات مهمة. ضغط يبدو أنّه غير آنيّ، بل متواصل باستمرار، ما جعلها لا تتواصل بطريقة جيدة مع ابنها المراهق الوحيد لارس (يونا ليفن نيكولاي)، الذي تعيش معه في البيت، بعد انفصالها عن زوجها، المنشغل هو الآخر بمشاريعه المختلفة، فنسي أو ربما تناسى ابنه كلّياً.
انطلاقاً من هذا السياق، يزداد الضغط على لارس، خاصة بعد وقوع مشكلات عدّة في مدرسته، أَثّرت عليه كثيراً. لكنّ نينا، بدل وقوفها معه في تلك المحنة، ابتعدت عنه، ولم تخصص له وقتاً كافياً للإحاطة بما يُعانيه من ضغوط نفسية، ولم تُكلّف نفسها الذهاب إلى المدرسة، في اجتماع أولياء أمور الطلبة مع إدارتها. من هذه المعضلة، يحدث أمر غريب: سقوط لارس من النافذة العليا للصفّ، ويُنقل بعدها إلى المستشفى. هذا يطرح تساؤلاً حادّاً، بعد نجاته: أهذا انتحار؟
حاولت الأم إقناع إدارة المدرسة أنّه حادثٌ فقط، لكنّها، في أعماقها، أحسّت أنّها عملية انتحار، وشكّت في أنّ ابنها يقف خلف عملية اختفاء فتاة المدرسة وإحراقها، لأنها وجدت جورباً نسائياً عنده في البيت، واعتقدت أنّه حاول الانتحار بسبب هذا. إنّها معطيات متخيّلة من الأمّ، كأنّها لا تعرفه. وعندما تواجهه في بعض هذه الأحداث، تأخذ القصة منحى آخر تماماً، وتنكشف حقائق جديدة، خاصة أنّها سافرت معه إلى مكان معزول على ساحل المحيط الأطلسي، لتمضية الوقت معاً، وإصلاح ما فسد في علاقتهما، مبتعدةً عن عالمها المثالي وانشغالاتها الكثيرة، كي تنصت إلى ابنها المراهق.
شكّلت هذه الحادثة منحنى رهيباً في حياة الأمّ التي وجدت أنّ هناك مسافة طويلة بينها وبين ابنها، إذْ إنّها لا تعرف شخصيته، ولا طريقة تفكيره، ولا سبب حزنه وكآبته. لذا، بَنَت أفكاراً خاطئة عنه، واعتقدت في لحظةٍ ما أنّه قتل فتاة المدرسة وأحرقها. لم تكن تعرف أنّ سبب الحزن منبثقٌ من كونه قريباً جداً من الفتاة نفسها، وأنّ فراقها الرهيب أثّر على سلوكه، مُدخلاً إياه في كآبةٍ، وأنّ الجورب النسائي المحتفظ به سرّاً في صندوق مغلق، اكتشفته، آخر ذكرى يحتفظ بها من رفيقته.
كلّ هذه المعطيات عادية للارس، لكنْ ما لم يتحمّله أنْ تربط أمّه بعض المؤشرات، وتعتقد في لحظةٍ ما أنّ ابنها قتل صديقته وأحرقها في صندوق قمامة. من هنا، تحوّلت حياته إلى جحيم لا يطاق، ودخل في مواجهة شديدة مع والدته.
عليه، وَجَب التساؤل عن الأسباب الحقيقية التي دفعت الأم إلى الاعتقاد بأنّ ابنها مجرمٌ. الإجابة بسيطة للغاية: ابتعادها عن حياته، وعدم فهم ما يفكّر فيه، نتيجة انقطاع التواصل الذي يكون عادة بين أم وابنها، بسبب مغانم آنيّة طرحها الزمن بمتغيراته، أنْسَتْها أولوياتها ومسؤولياتها العاطفية، لانهماكها بمهنتها التي تمنحها وقتها كلّه، في مقابل إهمالها أثمن ما/من لديها، أي ابنها الذي يبحث عن طريقة أخرى يضع فيها طاقته، وربما تكون الطريقة غير سوية، فتخسر الأم أعظم استثمار يمكن أنْ تحصل عليه.
مشكلة التواصل إحدى أهم مشكلات العصر الحديث؛ لهذا، يُمكن أنْ تحدث مشكلات كثيرة في أُسَر ومجتمعات، بسبب عوامل عدّة أشار "ولا كلمة" إلى بعضها. كما يمكن أنْ تُحدث ثقوباً يصعب سَدّها. لهذا، تدعو هَنَّا سْلاك إلى ضرورة الانتباه إلى هذه المعضلة، والحرص من تبعاتها. وسْلاك استطاعت أنْ تنسج، ولا أقول تكتب، سيناريو دقيقاً وعميقاً ومتشعّباً ومليئاً بالمفاجآت، خدمت به شكل الفيلم من جهة، ودعمت فكرتها إلى أبعد حَدّ، من جهة ثانية: المزاوجة التي صنعت جمالية "ولا كلمة"، وأعطته طاقة متوازنة وساحرة، فلم يجد المتلقّي أيّ مشكلة في المُشاهدة، لأنّ العمل مُشبعٌ بعناصر التشويق والإثارة، والحكمة والخلاصات الإنسانية الدقيقة.
هذا كلّه انطلاقاً من معالجة إخراجية، ضمنها حُسن إدارة الممثلين الذين أظهروا انسجاماً كبيراً من خلال التعاطي مع الأحداث والمتغيّرات بحِرفيّة كبيرة، خاصة الممثلة مارن إيغرت، الأم القلقة والشاردة والخائفة على علاقتها مع ابنها ومصيره، والمضغوطة من رؤسائها في العمل، ومن تنصّل طليقها من مسؤولياته. يقابلها تمثيل يونا ليفن نيكولاي في شخصية المراهق الغامض والغاضب، ذي الملامح القاسية وغير المفهوم بعضها، ما أعطى مسحة يُمكن أنْ ينطبق عليها تعبير "جمالية الوجه غير المفهوم". هكذا صُنعت ثنائية منسجمة مع التمثيل، ما منح القصة دفعاً كبيراً، وزرع فيها جانباً كبيراً من المصداقية.
"ولا كلمة" نقطة مضيئة في الحاضر، تُظهر مخاطر التطوّر وإفرازاته السلبية على المجتمع، ويُنبِّه بصوتٍ عالٍ إلى ضرورة التقسيم الزمني العادل لحياة الفرد، إذْ لا يُمكن لأي مسؤولية، مهما كان ثقلها، أنْ تنسي أباً أو أماً متطلبات أولادهما، لأنّ التنشئة الخاطئة والإهمال المتكرّر يؤدّيان حتماً إلى طرق مجهولة. هذه القيمة الأخلاقية سعى الفيلم لإيصالها إلى الجمهور.