عشر سنوات قضاها الفوتوغرافي الهولندي رونين ده خودا (1978)، متتبّعاً أسرار "الوشم الكامل"، الذي يحرص زعماء وأعضاء المافيا اليابانية الياكوزا أشد الحرص على الحصول عليه، ومهما غلا ثمنه. المصادفة وحدها هي التي قادت مصوّرنا قبل عشر سنوات إلى زيارة خبير الوشم الياباني هوريكازو Horikazu في حي أساكوسا Asakusa بطوكيو، ليصبح ده خودا، منذ هذه اللحظة، المصوّر الفوتوغرافي الخاص بتصوير جلسات عمل خبير الوشم الياباني على أجساد عملائه من أعضاء عصابات الياكوزا.
هذه التجربة الفوتوغرفية الفريدة، يتيحها لنا المصوّر الهولندي اليوم عبر وسيطين، الأول من خلال معرضه الذي افتتح مؤخراً بغاليري IBASHO في مدينة أنتويرب البلجيكية تحت عنوان "أساكوسا"، وهو اسم الحي الياباني الذي عاش فيه المصوّر عشر سنوات، وأيضاً العنوان ذاته الذي اختاره الفنان للوسيط الثاني، الكتاب الأنيق الذي ظهر في 216 صفحة، في صورة ألبوم فوتوغرافي غير مسبوق، يضم وجوه أبرز زعماء وأعضاء المافيا اليابانية!
يمتلك الوشم تاريخاً عريقاً في اليابان، لما له من معان دينية وتاريخية واجتماعية مختلفة، ضاربة بجذورها في عمق التاريخ الياباني القديم، لكن رغم هذا، تظل اليابان من البلدان التي ارتبط فيها الوشم ارتباطاً وثيقاً بعالم الجريمة، ويكفي أن نسرد قصة هوريكازو نفسه، بوصفه فنان الوشم الأشهر لدى رجال عصابات الياكوزا (يفوق عددهم اليوم المئة ألف عضو)، لنعرف إلى أي مدى ترتبط فلسفة الوشم في الثقافة اليابانية بالعنف والأعمال البطولية الخارقة.
ارتبط وضع الوشم في اليابان ارتباطاً وثيقاً بعالم الجريمة
قيمة روحية
كان هوريكازو أستاذاً تقليدياً لفن الوشم على مدى 40 عاماً من حياته، حتى أطلقوا عليه لقب هوريشي horishi، وهو ما يعني أنه أصبح ليس فقط محترفاً في مجاله، بل "سيّد" له. وبسبب من شهرته وبراعته هذه، أصبح الرجل مقصداً لأبرز أعضاء الياكوزا اليابانية، الذين يؤمنون بالقوة الخفية التي تمنحها الوشوم للإنسان، وهو ما يوضّحه رونين ده خودا في أحد لقاءاته الإعلامية التي تزامنت مع افتتاح معرضه بقوله: "يؤمن رجال المافيا اليابانية أن الوشم يجب أن يقول شيئاً عن الشخص نفسه، وغالباً ما يتضّمن وشم الياكوزا اسم عائلة معينة، ولأنه وشم كامل للجسد كله، فإن العمل عليه لا ينتهي أبداً، وهو ما يعني قدرة غير اعتيادية على تحمّل الألم، إضافة إلى الأسعار الجنونية لهذه الوشوم، لأنها تتطلّب جلسات عمل لا تنتهي، لذلك تحوّل الوشم لدى رجال العصابات في اليابان إلى معيار أو مؤشّر لوضع اجتماعي واقتصادي معيّن، فهو من جهة علامة على ثراء الشخص، كما من جهة أخرى، علامة على قدرته الخاصة على تحمّل الألم المستمر، والذي بدوره يضفي المزيد من القيمة الروحية التي يمثّلها الوشم لدى صاحبه".
اشتهرت الياكوزا في الوعي الجمعي لليابان بوصفها مجموعة من "الشرفاء الخارجين عن القانون"، وترسّخ وجودها بهذا الشكل في الأدب والسينما والفن على الدوام. لكن الأفعال الانتقامية الوحشية والجرائم البشعة التي تتورّط فيها الياكوزا، ليس في اليابان وحدها، بل في أغلب الدول الآسيوية والأوروبية، لا يمكن أن تمحوها نوبات كرم العصابة المباغت، والذي تعلن عنه العصابة من وقت إلى آخر، خاصة في أوقات الأزمات، مثل مساعداتها للمتضرّرين من آثار التسونامي الذي ضرب مدينة "كوبي" اليابانية عام 1995، أو تبرّع زعماء الياكوزا بملايين الدولارات لإغاثة منطقة توهوكو التي دمّرت جرّاء الزلزال الضخم الذي ضرب اليابان عام 2011، كل هذا لا ينفي أن قوّة الياكوزا الحقيقية في اليابان تستند إلى الخوف منها ومن بطشها، وهو ما يشير إليه الناقد الفني الإنكليزي مارك بويسدن، والمتخصص في تاريخ فن الوشم الياباني، في مقدمته للكتاب، فيقول: "مثل جميع التكتّلات الإجرامية في جميع أنحاء العالم، ترتكب الياكوزا اليابانية أسوأ الجرائم التي يمكننا تخيّلها، بدءاً من القتل والإرهاب والابتزاز والخطف وارتكاب المجازر والاتجار في الأسلحة والمخدرات والبشر، وصولاً إلى شبكات الدعارة الدولية والجريمة الإلكترونية، كل هذا يمنح مشاهدتنا لصور رونين ده خودا تأثيراً أكبر على حواسنا، كأننا نشاهد أشخاصاً من عالم آخر، يحملون على جلودهم رسوماً أسطورية".
اشتهرت الياكوزا في الوعي الجمعي لليابان بوصفها مجموعة من "الشرفاء الخارجين عن القانون"
عالم غامض
رحل هوريكازو، رسام الوشم الذي تتبعه رونين ده خودا، عام 2011، ليرث ابنه أعماله وقليلا من شهرته، وليكتشف ده خودا أنه يملك أرشيفاً فوتوغرافياً نادراً لأهم رسومات سيد الوشم الياباني هوريكازو، وأيضاً لأن هذه الصور تؤرشف لأعضاء الياكوزا اليابانية ذات السمعة السيئة في بلادها، فيقرّر أن يُخرج إلينا هذا العالم الغامض فوتوغرافياً، خاصة وأن السلطات اليابانية تشنّ حملات واسعة ضد زعماء الياكوزا في العقود الأخيرة، وتعتبرها منظمة إجرامية دولية، لكل هذه الإشارات، نشعر ونحن ننتقل بين صور ده خودا المزدحمة بالأجساد الموشومة، أننا نتلصّص من كوة في جدار على عالم غامض، نريد استكشاف المزيد من غموضه، لتتحوّل خطوط الوشم تحت أعيننا إلى أكثر من مجرّد حفر على جسد، بل أثر لا يُمحى لساعات وأيام وشهور وسنوات، كأنها خريطة عمر كامل من عدم الحركة تحت إبرة اسمها الألم.
يستعرض Asakusa، الكتاب والمعرض، مجموعة مختارة من صور الأبيض والأسود لهوريكازو وهو يرسم وشومه على أجساد عملائه، فننتقل من صورة لا نرى فيها إلا وشماً يزيّن ظهر رجل دون أن نرى وجهه، إلى صورة جماعية أكبر، تضم عدداً من الرجال في زي موحّد خلال أحد مهرجانات الوشم اليابانية التي تنظمها الياكوزا لأعضائها. نستطيع أن نلاحظ أن جميع الصور تم التقاطها بشكل عفويّ، دون ترتيب مسبق من المصوّر، أو حتى توقع الصورة من قبل الشخص أو الأشخاص أمام العدسة، إلى الدرجة التي نشعر معها بأن هذه الصور "ليس بها الكثير من الفن"، لكن هذا "الفقر الفوتوغرافي" - إن صح لنا تسميته كذلك - يتماشى تماماً مع فكرة "التوثيق" الذي انطلقت منه التجربة في البداية، فهي لا تعدو كونها صوراً تم التقاطها لأناس يخضعون لجلسات طويلة تحت أنامل فنان الوشم هوريكازو.
السلطات اليابانية تشنّ حملات واسعة ضد زعماء الياكوزا في العقود الأخيرة وتعتبرها منظمة إجرامية دولية
مهارة إعجازية
استنّت الياكوزا لأعضائها، المنتشرين في اليابان والصين وتايلاند وسنغافورة وروسيا وغيرها، العديد من سبل الولاء التي يجب عليهم الالتزام بها، ومن بين هذه الولاءات، احتلّت تغطية الجسد كله بالوشوم المعقّدة درجة عليا تكاد تقارب التقديس لدى أعضاء الياكوزا، لأن هذه الوشوم في الحقيقة انعكاس فني للأساطير اليابانية القديمة، كذلك اشترطت الياكوزا أن يتم وشم هذه الرسوم بالطرق اليابانية التقليدية، وليس باستخدام الأجهزة الحديثة، لذلك كانت مهارة خبير الوشم الياباني هوريكازو إعجازية، لأنه كان يستخدم آلة بدائية مصنوعة من الخيزران المدبّب كإبرة لحفر الوشم على الجسد، ورغم هذا التفاخر بالوشوم الذي تمتلكه الياكوزا، إلا أن قانونها ألا يتم إظهار تلك الوشوم في الأماكن العامة، وتفرض على أعضائها ارتداء ملابس تخفيها بشكل كامل عن العيون.
لكن رغم هذا، يبقى العالم الذي تظهره لنا صور رونين ده خودا مختلفاً تماماً، فنحن لا نرى إلا أجساداً تحتفي وتتفاخر بجمال الوشوم المعقّدة على جلودها، وهو ما يفسره لنا ده خودا في مقدّمته لكتابه، الذي يعتبره "يومياته المصورة" التي جمعها خلال عشر سنوات (2011 - 2020) عاشها في حي Asakusa الياباني، فيقول: "سُمح لي بحضور جلسات الوشم التي لا تنتهي، والتي كنت أحرص ألا أُصدر خلالها أيّ حركة، احتراماً للطقس الفني الذي أحضره، كانوا يقولون لي أحياناً "أنت مثل ذبابة على حائط، هولندي طوله أكثر من ستة أقدام، لا نراه أو نسمعه"، كان ذلك دليلاً على الروح اليابانية كما أخبروني، وسُمح لي بعد ذلك بمشاركتهم الطعام والجلوس إليهم أثناء نقاشاتهم، وحضور جلسات استحمامهم التي يتباهون فيها بأوشامهم المميزة".
استنّت الياكوزا لأعضائها، المنتشرين في اليابان والصين وتايلاند وسنغافورة وروسيا وغيرها، العديد من سبل الولاء التي يجب عليهم الالتزام بها، ومن بين هذه الولاءات، احتلّت تغطية الجسد كله بالوشوم المعقّدة درجة عليا تكاد تقارب التقديس
صداقة حيّة
لا شك أن القيمة الفنية التي يطرحها الفوتوغرافي الهولندي رونين ده خودا في معرضه الجديد، تبقى مشوبة بغموض العالم الذي تكشفه لنا، خاصة وأن عصابات الياكوزا باتت مهددة في اليابان، وفقاً لإحصائيات الجريمة التي تشير إلى انخفاض عدد أعضاء العصابات ومعاونيهم المتخصصين في عمليات الاحتيال منذ عام 2015، إلا أنهم لا يزالوا يمثلون 23 بالمئة من المعتقلين، بحسب إحصائيات العام 2018.
في رده على سؤال ما إذا كان هو الآخر يمتلك وشماً من صنع معجزة الوشم الياباني هوريكازو، أجاب المصور الهولندي رونين ده خودا ضاحكاً: "لديّ وشم كبير إلى حد ما أهداني إياه هوريكازو بنفسه، في لحظة ما فاجأني بأن قال لي: (استلق، سنبدأ الآن في وشمك)، وبدأ بوشم صغير جداً، إلا أنه استمر في توسعته تدريجياً حتى وفاته، ولا يزال العمل قيد التقدم على يد ابنه، أعتبر أن هذا الوشم دليل على الصداقة الأبدية، لأنه لن ينتهي أبداً، فبحسب فلسفة الشنتو، عليك أن تستمر في العودة لإكمال الوشم، حتى تظلّ الصداقة حيّة".