هل يتحول وادي السيليكون إلى قاعدة استخبارات؟

14 ديسمبر 2021
حاولت شركات التكنولوجيا النأي بنفسها عن سلطات واشنطن بعد تسريبات سنودن (بيتو باراتا/Getty)
+ الخط -

في تصريح له الشهر الماضي، حضّ رئيس جهاز الاستخبارات الخارجية البريطاني ريتشارد مور، وكالات التجسس الوطنية على تغيير نهج السرية المتّبع منذ زمن، وتنسيق الجهود مع شركات التكنولوجيا لمكافحة الدول المعادية والمجرمين والمتطرفين. وفي كلمة ألقاها في المعهد الدولي للدراسات الاستراتيجية في لندن قال رئيس جهاز "إم آي 6" البريطاني إن أعداء البلاد يغدقون "المال ويبذلون جهودا كبرى لإتقان قطاع الذكاء الاصطناعي، والحوسبة الكمومية والبيولوجيا التركيبية". وتابع "لا يمكننا أن نعقد الآمال على إعادة إنتاج قطاع التكنولوجيا العالمي، لذا علينا أن نستفيد منه". وشدد على أهمية هذا التغيير في نهج "إم آي 6" وأسلوب عملها بما أن الوكالة تعتمد بشكل أساسي على قدراتها الذاتية.

لم يكن هذا التصريح بجديد على وادي عمالقة التكنولوجيا، إذ يعمل مستثمرون مع وكالات المخابرات والجيش الأميركيين لـ"تشكيل مستقبل وادي السيليكون"، مما يضمن إنتاج الشركات لابتكارات أمنية، ويجنّب التمويل من خصوم أميركا، مثل الصين، لكنّه يثير أيضاً المخاوف حول تحويل معقل شركات التكنولوجيا الأميركيّة إلى مطية بيد الاستخبارات. 

يشرح تقرير نشره موقع "ياهو نيوز"، الشهر الماضي، أن شركات مثل New North Ventures وHarpoon وScout Ventures وRazor's Edge، غالباً ما يعمل فيها مسؤولون سابقون في المخابرات والجيش الأميركيين، وفي بعض الأحيان تموّل هذه الشركات الاستثمارية شركات ناشئة ذات صلة بالأمن القومي، لأنها تعمل في مجالات مثل الذكاء الاصطناعي والأمن السيبراني والجيل القادم من الاتصالات. 

التقدم التكنولوجي يغير بشكل أساسي ممارسة التجسس

يحلل الموقع العلاقة القوية المتنامية بين شركات رأس المال الاستثماري ووكالات التجسس والجيش الأميركية. وينقل عن الأستاذ الزائر في جامعة جورج ميسون والضابط السابق في وكالة المخابرات المركزية، رونالد ماركس، أن وادي السيلكون يشهد تطوراً نحو "قاعدة استخبارات صناعية". يضيف "كان لديك قاعدة صناعية عسكرية من قبل، والآن لديك قاعدة استخبارات صناعية. لماذا؟ لأنه، دعنا نواجه الأمر: كل عناصر المعلومات معاً تشكل 86 مليار دولار. إنها ثالث أكبر جزء من الميزانية التقديرية للولايات المتحدة. هذا الكثير من المال".

هاجس الاستثمار الصيني

رئيس جهاز الاستخبارات الخارجية البريطاني الذي تولى رئاسة وكالة "إم آي 6" العام الماضي، حذّر من أن التهديدات السيبرانية التي يشكّلها المجرمون والمتطرفون والدول المعادية تتزايد بشكل "سريع جدا". وقال "قد نشهد في السنوات العشر المقبلة تقدّما تكنولوجيا أكبر مقارنة بما شهدناه في القرن الماضي"، محذّرا من أن تأثير ذلك سيكون موازيا للثورة الصناعية.

واعتبر ريتشارد مور الصين وإيران وروسيا تشكل مصدرا رئيسيا للقلق. وقال إن "التكيّف مع عالم متأثر بصعود الصين هو أولى أولويات إم آي 6". وشدد على أن "جهاز الاستخبارات الصيني يمتلك قدرات كبيرة ويواصل عمليات التجسس واسعة النطاق ضد المملكة المتحدة وحلفائنا".

وحذّر من مخاطر إساءة الجانب الصيني تقدير الأمور بسبب ثقته المفرطة بقدراته. من جهة أخرى أشار مور إلى أن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين يشكل "تهديدا كبيرا" بسبب ممارساته عند الحدود مع أوكرانيا. إلا أنه شدد على أن بريطانيا "لا نية لديها لمعاداة روسيا أو تقويضها أو محاصرتها"، وأضاف "لكننا سنفعل كل ما يقتضيه الأمر لإبقاء بلادنا آمنة وردع كل المخاطر التي تشكّلها موسكو والتصدي لها". وأشار مور إلى وجود العديد من القواسم المشتركة بين المخاطر التي تشكّلها روسيا وتلك التي تطرحها إيران.

وحدات متخصصة داخل البنتاغون للتحايل الظاهر على البيروقراطية وتمويل الابتكار التكنولوجي

وهناك حاجة ماسة إلى تنسيق أكبر بين وادي السيليكون وبيروقراطيات الأمن القومي في واشنطن، وفقاً لهيذر ريتشمان، مؤسسة شبكة "ديفنس إنفيستور نتوورك"، وهي مجموعة مقرها وادي السيليكون تربط كبار المسؤولين من البنتاغون ووكالات الاستخبارات الأميركية بشركات رأس المال الاستثماري والشركات الناشئة. وتركز الشبكة على عدة مهام أبرزها دفع المستثمرين إلى التوقف عن أخذ الأموال الصينية. وجمعت ريتشمان أيضاً شبكة من المستثمرين من القطاع الخاص الذين يعملون معاً لمحاولة التخلص من أي ملكية من الدول الأجنبية لا تؤيدها، لا سيما الاستثمار الصيني المخفي، قبل تقديم الدعم المالي للشركات الناشئة. وتضم الشبكة أعضاءً من جميع البلدان داخل تحالف العيون الخمس الاستخباراتي، وهي الولايات المتحدة والمملكة المتحدة وأستراليا وكندا ونيوزيلندا، كما تضم رئيس وزراء أستراليا سابقا، بالإضافة إلى عمالقة من عالم رأس المال الاستثماري في وادي السيليكون، وشركات المشاريع الصغيرة ذات الاستخدام المزدوج والمكاتب العائلية، وفقاً لريتشمان.

وتدرك وكالات الاستخبارات والجيش أن الشركات ستحول بعض الدروس التي تعلمتها داخل الحكومات إلى تقنياتها التجارية، وفقاً لبريت ديفيس، وهو شريك في صندوق يركز على الأمن القومي، قضى 34 عاماً في وكالة المخابرات المركزية وعالم العمليات الخاصة. وبحسبه، ستعمل وكالات الاستخبارات والعسكرية أيضاً على تحديد الموظفين والموارد الأخرى مع موظفين من هذه الشركات الناشئة، مما قد يمنح شركات التكنولوجيا دعماً. ويشير إلى قيادة العمليات الخاصة المشتركة للجيش، بحيث "يمكنك التغلب على المنافسة التجارية، لأنك تعمل على أصعب المشكلات التي تعمل عليها وكالة المخابرات المركزية وقيادة العمليات الخاصة المشتركة. لذا فإن الشركة تستفيد على طول الطريق، والمخابرات تريد أن تخفض التكاليف عبر هذه الشركات التي تجني الأرباح من نشاطها التجاري".

المخابرات تريد أن تخفض التكاليف عبر الشركات التي تجني الأرباح من نشاطها التجاري

قد تتطور هذه العلاقة التكافلية بين جهاز الأمن القومي الأميركي والتمويل إلى نوع واقعي من السياسة الصناعية، وهو أمر يُعتبر غير مقبول في مبادئ السوق الحرة الأميركية ولكنه يحظى بدعم متزايد من الحزبين الحاكمين بسبب المزايا المتصورة للصين في البحث والتطوير المدعوم من الحكومة. وكانت هذه قوة دافعة وراء إنشاء شبكة المستثمر الدفاعي، وفقاً لريتشمان، التي تقول إن الشبكة "تجمع مجتمعاً موثوقاً به، يجب أن يبدأ هذان العالمان [من وكالات الأمن القومي الأميركية ورأس المال الاستثماري] العمل معاً بخطى ثابتة"، وإلا فإن الولايات المتحدة ستخاطر بتجاوز الصين لها في سباق التسلح التكنولوجي. وتضيف ريتشمان: "تشير المقاييس إلى أنه خلال السنوات الثماني إلى العشر الماضية، صار هناك أكثر من 3 آلاف شركة ضمن المجالات الخمسة الأولى للأمن القومي التي لديها استثمارات صينية كبيرة، لأن هذا هو ما استهدفته. هل يمكنني إزالة رأس المال الصيني من 3000 شركة؟ لا، هل يمكنني إخراج أكبر خمس شركات والتركيز عليها خلال الأشهر الستة المقبلة؟ نعم أستطيع".

تكنولوجيا
التحديثات الحية

حالة "بالانتير"

تعتبر شركة تحليل البيانات الضخمة "بالانتير" بمثابة نموذج لهذا النوع من التنسيق بين الاستخبارات والشركات. فـ"إن كيو تيل" هو صندوق المشاريع الخاص بوكالة المخابرات المركزية للتكنولوجيات الناشئة، وكان من أوائل المستثمرين في "بالانتير"، وهي شركة برمجيات تأسست عام 2003. وسعت "إن كيو تيل" منذ فترة طويلة إلى تسويق منتجاتها لوكالات التجسس والعسكرية والشركات الكبرى على حد سواء. تم طرح شركة "بالانتير" للاكتتاب العام في عام 2020 بتقييم أولي يبلغ حوالي 22 مليار دولار، على الرغم من أنها لا تزال تواجه تدقيقاً بشأن تقييمها. وقال ديفيس: "بلانتير فتحت أعين الجميع" على القيمة المحتملة للشركات الناشئة ذات الاستخدام المزدوج.

شركة تحليل البيانات "بالانتير" نموذج للتنسيق بين الاستخبارات والشركات
 

عالم ما بعد سنودن 

قطعت العلاقات بين وادي السيليكون ووكالات التجسس الأميركية شوطاً طويلاً منذ الكشف عن معلومات إدوارد سنودن عام 2013. فبعد تسريبات سنودن حاولت العديد من شركات التكنولوجيا النأي بنفسها عن السلطات في واشنطن، وفقاً لرونالد ماركس، المسؤول السابق في وكالة المخابرات المركزية.

وتطمح وكالات التجسس الأميركية إلى تقنيات جديدة منذ عقود. لكن العديد من مسؤولي المخابرات يعتقدون الآن أن التقدم التكنولوجي يغير بشكل أساسي ممارسة التجسس. وأصبح الدفع لمنح الولايات المتحدة ميزة تجسس ناتجة عن التكنولوجيا أولوية رئيسية لوكالة المخابرات المركزية تحت إدارة بيل بيرنز. ففي أكتوبر/تشرين الأول، أعلن بيرنز أن الوكالة تنشئ مركز مهام لمعالجة القضايا العالمية الحاسمة للقدرة التنافسية للولايات المتحدة، بما في ذلك التقنيات الجديدة والناشئة، والأمن الاقتصادي، وتغير المناخ، والصحة العالمية".

وأنشأت CIA "ذراعاً داخلياً للبحث والتطوير" تم تصميمه لتشجيع موظفي الوكالة على التعاون مع الأكاديميين والباحثين من القطاع الخاص في التقنيات الناشئة. ولطالما احتفظت وكالة المخابرات المركزية بإصبعها في وادي السيليكون مع "إن كيو تيل"، لكن في عام 2015، أسس البنتاغون وحدة ابتكار الدفاع، والتي تحاول أيضاً تمويل التقنيات لاستخدامات في مجال الأمن القومي. منذ ذلك الحين، ظهرت عدة وحدات متخصصة أخرى داخل البنتاغون من أجل التحايل الظاهر على البيروقراطية وتمويل الابتكار التكنولوجي.

المساهمون