هل نحتفظ بذائقة الطفولة؟

05 فبراير 2023
تعلّقتُ طفلةً بعبد الحليم حافظ ونظراته لسنوات (دانيال سيمون/Getty)
+ الخط -

إنّها صورٌ واضحة من أفلامٍ ضبابية، تركتْ أثرها على أحاسيس طفولة بعيدة. هناك بطلٌ لا يُقهر، يقضي على الشّر والأشرار. وسيمٌ طبعاً. عاري الصدر، لزوم الحقبة التاريخية، وربما أيضاً لزوم إظهار العضلات المفتولة. كان السؤال المحيّر: من أفضل يا تُرى: هرقل، بطل الأساطير الإغريقية والرومانية، ورمز الشجاعة والقوّة الهائلة والتحمّل؛ أم منافسه (سينمائياً)، ماشيستي؟ الاثنان بطلا الطفولة. هرقل (الممثل ستيف ريفز في معظم الأفلام)، حامي الرياضيين، وابن الإله الذي ينبذ الخطر. أحياناً، بحسب الحالة، تنحاز نظرات الإعجاب إلى أحدهما أكثر من الآخر. لكنّهما، ربما ماشيستي (الإيطالي كيرك موريس) أكثر، مَثّلا في المخيلة انتصار الخير، وتجسيد العدالة على الأرض.

هل يشعر الأطفال بأنّه الصراع الأبدي لهذه الحياة؟ كانت أفلام انتصارات وأمل. لم يكن الأمل طفولياً فحسب، فالأجواء كلّها كانت متفائلة.

أفلامٌ كهذه كانت تُعاد مراراً، وتلقى في حمص السورية شعبيةً كبيرة. كنّا لا نفوّت منها فيلماً، لا سيما في "سينما حمص". كلّ سينمات المدينة مُشرّعةٌ أمامنا. يكفي هاتف سريع من أبي. عيدا الفطر والأضحى كانا السينما. فيلمٌ وراء آخر. كلّها مع ماشيستي وهرقل. ربما لأنّي كنتُ مجبرةً، حينها، على مرافقة أخي الأكبر سناً. كان هؤلاء أبطاله الذين باتوا أبطالي. تعلّقتُ بهذه السينما وأبطالها الأسطوريين وقصصها التاريخية، التي كانت تدور أحداثها قبل الميلاد، لا سيما في روما القديمة واليونان ومصر. أفلامٌ أطلقها، بعد الموجة الأولى في عصر السينما الصامتة ثم فترة هوليوود، ريكاردو فريدا، المخرج والممثل وكاتب السيناريو الإيطالي المولود في مصر، مع "سبارتاكو" (1952).

كان العصر الذهبي للـ"بيبلوم". تعبيرٌ توصف به الأفلام التاريخية الأسطورية، التي تقع أحداثها في العصور القديمة، استند بعضها إلى قصص العهدين القديم والجديد. ثمّ سيطرت السينما الإيطالية الشعبية على هذا النوع، وأُنتِجت منه أفلامٌ عدّة، يواجه فيها باسم العدالة أبطال، كهرقل وماشيستي، أسوأ الأشرار وأعداء الإنسانيّة. في نهاية معاركهم، يتلقّون إعجاب وقبلات حسناوات السينما ذلك الحين.

هذه المجموعة الفريدة، التي دامت نحو 10 سنوات (1958 ـ 1969)، كانت تُعرض ويعاد عرضها باستمرار في الصالات. وجدتُ في معظم ما شاهدته منها بطلاً لا يُقهر، يبحث عن تحقيق العدالة. هذا ما بقي في ذاكرة غضّة، في أجواء نهاية ستينياتٍ منفتحة في حمص، الملأى بالـ"سينمات" الشعبية والبورجوازية. سينما للأفلام الأجنبية، وثانية للعربية، وثالثة للهندية، وأخرى مُحرّمة علينا، لأنّها للـ"زعران" فقط.

فيلمٌ، كانت استعادته الدائمة مُهِمَّة سينما "الأمير". كان الخروج الأول عن هذه الأفلام. تصطحبني قريبتي الشابّة لمشاهدة عبد الحليم، معبود النساء في ديارنا. كنتُ تبريراً مناسباً للسماح لها بدخول السينما. كان مُحظّراً عليها ارتياد هذا المكان "العيب". لكنْ، طالما تعلّق الأمر باصطحاب صغيرة العائلة، المُدلّلة والملحاحة سينمائياً، فلا بأس. كان عالماً آخر في صالة عرض "معبودة الجماهير" (1967)، لحلمي رفلة. نساءٌ، ونساء فقط، خلافاً لأفلام هرقل، حيث شباب، وشباب فقط، وأنا مع أخي. فرضوا عليّ أفلامهم، لكنّي تعلّقت بأبطالهم.

في "معبودة الجماهير"، تعلّقتُ طفلةً بعبد الحليم ونظراته لسنوات، ثمّ لم أعد، شابّةً، أطيقها، حين عرفت بما فرضه على سعاد حسني من إخفاء علاقة الحبّ بينهما. بعد أنْ أصبحت النسوية شغلي الشاغل، كرهت عبد الحليم. لكنْ، حينها، جذبتني العواطف الرقيقة في الفيلم، وأثار فضولي ما كان يثيره من دموع في عيون العذارى والمتزوّجات، حتى أولئك اللواتي كنّ يأتين إلى السينما مع أطفالهنّ الرضّع. كانت دار العرض كالسوق، بعضهن جلسن على الأرض، لامتلاء الصالة عند كلّ حفلة بعد الظهر. أمّ ترضع طفلاً أثناء عرض الفيلم، أو في الاستراحة، بينما آخر يجري بين المقاعد بعد أن مَلّ الحكاية. أخريات يشهقن بالبكاء. بعضهنّ لا يتوقفن عن تعليقات متعاطفة مع حليم ضد شادية، ثم في الدعاء على يوسف شعبان، الذي أوقع بين الاثنين. كانت النساء يحفظن الفيلم عن ظهر قلب، ويتوقّعن كلّ حدث، فتبدأ التعليقات قبل حدوثه.

كانت أول مرة أشاهد فيها فيلماً يُحوّل نظرتي عن ماشيستي، فأرى عبد الحليم أكثر سحراً بقليل منه. هذا لم يمنع استغراباً: كيف تفضّله شادية على يوسف شعبان، الأكثر وسامة ورجولة؟ ربما لأنّ يوسف شرير. والشرير سيخسر كالعادة. في ذلك الوقت، كانت سينما الانتصارات على الشر. إنّما، لأول مرة، بدا الشرير وسيماً وجذّاباً في نظري، وحافَظَ يوسف شعبان على مكانته لديّ حتى النهاية.

قريبتي نفسها اصطحبتني، كمبرّر أيضاً، إلى فيلمٍ هنديّ، كل ما احتفظتُ به كذكرى ذاك الزحام الهائل والفوضى في السينما، وعبارة "سوكو سوكو". فيلمٌ كان حديث المدينة، وكان يُعرض دائماً، ويذهب إليه أناس لا يرتادون، عادة، دور السينما. لكنّي لم أحفظ مشهداً واحداً منه، ولم يجذبني. كنتُ أنتظر، كما أذكر، انتهاءه بفارغ الصبر. بقي النفور من أفلام هندية إلى اليوم، وفي هذا شيء عجيب. هل نحتفظ بذائقة الطفولة؟

حين تسأل: ما فيلمك الأول الذي ترك أثره لديك، يتبادر إلى الذهن، فوراً، الحبّ الأول الذي "عَلّم". إنْ أحببنا جميعنا ترداد بيت شعر المتنبي "نَقّلْ فؤادَك حيث شئتَ من الهوى/ ما الحبُّ إلا للحبيبِ الأوّل"، أدركنا سريعاً عدم مُطابقته لمشاعر الحياة. هناك أفلام عدّة، كلّها أولى في دورها، وفي ما أضافته على حياتنا.

 

سينما ودراما
التحديثات الحية

 

في حمص، ميّزتْ مرحلة الشباب أفلامٌ فرنسية شعبية ممتازة، كانت تغزو قلوب الجماهير. أبطالها آلان دولون وجان ـ بول بلموندو ولينو فنتورا. كانت "سينما الكندي"، التابعة لوزارة الثقافة، تعرض الكثير منها. كذلك السينمات الخاصة. كانت مرحلة مزدهرة، فيها متعة وانبهار فتيات المدينة بوسامة دولون أكثر من أفلامه. ربما بسبب السنّ. لكنها مرحلة انطفأت سريعاً مع ظهور أشرطة الفيديو، التي قادت إلى إغلاق السينمات في حمص واحدة تلو أخرى. شريط الفيديو كان سبب تحوّل عميق في نظرتي إلى الفن السابع.

المرّة الأولى التي شاهدت فيها هذا الفيلم كانت على شريط فيديو، عرضه صديق. فيلمٌ ألغى كلَّ ما رأيته قبلاً، ليبدو باهتاً ولا معنى له. المشاعر التي أثارها جديدة وعميقة ومؤثّرة، والتوغّل في هذا العالم كان ساحراً ومُبهراً. كان كمغناطيس لا يُمكن تحويل النظر عنه (ساعتان ونصف الساعة تقريباً). أنْ تتعلّق بهذا الرجل القصير المدهش الغريب، وتبكي لرحيله، كأنّك فَقَدت عزيزاً، ويبقى أثر غيابه إلى اليوم مع كلّ تذكّر، أمرٌ لا يُفسّره إلاّ سحر السينما.

أسعد "ديرسو أوزالا" القلب وأوجعه، وسكنه إلى الأبد. أنجز أكيرا كوروساوا فيلماً عن الطبيعة والإنسان، حيث تختلط أساطير سيبيريا القديمة بمناظر التايغا الطبيعية، التي لا نهاية لها، فنكتشف صراع البقاء في الظروف المناخية القاسية. في "ديرسو أوزالا" (1975)، يصادف فلاديمير أرسينييف، عالم جغرافيا في الجيش الروسي ومستكشف سيبيريا عام 1902، ديرسو (مكسيم منزوك)، الصياد العظيم، الذي تفرض حياته في الغابة عليه حبّاً واحتراماً للطبيعة، ومعرفة نادرة بها، وشغفاً ينقله إلى فلاديمير، الذي يقرّر الاستعانة بخبراته.

ما هذه السينما؟ في عبقريتها، تتحوّل الحياة اليومية إلى عمل فني، يلتقط كلّ شيء في نقائه وطبيعته. إنّها تحفة، ورحلة رائعة في المشاعر والجمال. لِمَ لمْ نرها قبلاً، والانتظار ربع قرن قبل اكتشافها، و10 سنوات بعد إنتاجها؟ لم يكن الحبّ الأول، لكنّه الأعمق والأهم. قادني نحو سينما أخرى، سينما آسيوية لم نكن نعرفها ولا يخطر وجودها على بالنا. بات الهدفُ الاطّلاعَ على كلّ أعمال هذا المخرج الياباني العظيم. كان ذلك متاحاً في سينمات فرنسا. كلّ أفلام كوروساوا، وكلّ السينمات الآسيوية. في "مهرجان نانت للقارات الثلاث"، انفتحت الآفاق على سينما جديدة، ليس فقط آسيوية، بل أيضاً عربية وأفريقية وأميركية لاتينية، لم تكن متاحة في بلادنا.

كانت المفاجأة في اكتشاف سينما مميزة لمخرجين عرب غير مصريين، بفضل فيلمين:

"سجل اختفاء"(1996) لإيليا سليمان، بدا لي فيلماً عربياً "غريباً"، لم أتذوّقه من المرة الأولى. في البدء، كانت سعادةً رؤيةُ فلسطين مُصوّرة في فيلم عربي، ودهشة التعرّف على عربي من إسرائيل، خاصة لقادمٍ من "بلاد البعث". كان هذا مُحظّراً في سورية. في الفيلم، مخرج فلسطيني يعود إلى إسرائيل ليُخرج فيلماً. يرصد هوية السكّان العرب في إسرائيل، ويروي قصّته في جزأين: "الناصرة ، يوميات" و "القدس، يوميات سياسية". في الناصرة، مسقط رأسه، يُصوّر والده ووالدته وأصدقاءه وجيرانه. ثمّ يُختتم الفيلم بنهاية البثّ التلفزيوني الإسرائيلي أمام زوجين فلسطينيين نائمين. كان فيلماً لا ينسى، لما تركه من أثر سياسي وفني على نفسٍ ساعية إلى اكتشاف كلّ جديد.

وإن اختلفت نوعية تأثير الفيلم الثاني، كانت الدهشة من وجود أفلام عربية، على هذا القدر من الاختلاف والتميّز، مفاجأة كبيرة وممتعة. "طوق الحمامة المفقود" (1991)، الذي استعاده "مهرجان نانت" بعد سنوات، فيلمٌ للتونسي ناصر خمير، الذي استوحى الكتاب الشهير لابن حزم الأندلسي، عن أنواع الحبّ وخصائصه. كانت بداية التعرّف على هذا المخرج السينمائي المتفرّد، الذي يعتمد التراث العربي، ويستخدم عناصره في السينما، بكل ما فيها من روحانيات وجماليات.

شكراً لكلّ هؤلاء الذين شرعوا أبواب السينما المختلفة أمامي.

المساهمون