أول فيلم. أيكون هناك، فعلاً، أول فيلم مؤثّر في حياة أحدٍ؛ أم أنّ تراكماً من الأفلام، في مناسبات وظروفٍ مختلفة، يصنع تأثّراً بالسينما، وبما فيها من عوالم وصُور وحكايات وانفعالات واشتغالات؟ أفلامٌ وظروف فقط، أم أنّ هناك تربية عائلية، وسلوكاً اجتماعياً، وتثقيفاً معرفياً؟ أيّ ظرفٍ يساهم في هذا؟ أيّ وقتٍ وأيّ حالةٍ وأيّ واقع وأيّ رغبةٍ وأيّ عمرٍ وأيّ وعي، وللطفولة/المراهقة وعي خاصّ بكل واحدة منهما؟ أيكون للسينما، في بيروت مثلاً، تأثيرٌ يختلف، كثيراً أو قليلاً، عن ذاك التأثير الحاصل في مدنٍ عربية أخرى، أو في الغرب، والمعنيّ بتأثير بيروت مرتبطٌ بفترة سابقة، بقليل، على اندلاع الحرب الأهلية فيها (13 أبريل/ نيسان 1975)، وبلحظاتٍ أولى منها؟
ماذا عن الوضع الاجتماعي، والحالة الثقافية، والتربية النفسية؟ ألنْ يكون لأهلٍ تأثيرات، يُفترض بها أنْ تنبثق من أوضاعٍ لهم، اجتماعية وثقافية وتربوية ومسلكية؟ أهناك اهتمامٌ لهم بالسينما، أو بالفن، أو بالثقافة، واهتمامٌ كهذا يتوقّع له أنْ ينعكس على ابنٍ، يولد في بيروت قبل أقلّ من 10 أعوام، بقليل، على اندلاع حربها الأهلية، وفي الأعوام الـ10 تلك خضّات وارتباكات وتبدّلات، تنكشف له تدريجياً في أعوامٍ لاحقة؟ والأهل، الذين يؤثّرون في غير البالغ 10 أعوام بعد، "يُطرَدون" من بلدٍ، يولد بعضهم فيه، ويهاجر بعضٌ آخر إليه، فإذا بمتغيراتٍ عدّة، في السياسة والقيادة والسلطة في ذاك البلد، تفرض خروجاً يُشبه السلخ، والذهاب/العودة إلى بلدٍ، يُفترض به أنْ يكون "الأصل"، لكنّ ظروفاً أخرى سابقة تدفع أجداداً إلى هجرةٍ، تختار الإسكندرية بديلاً عن بيروت، بداية القرن الـ20، قبل أنْ تُسبِّب "ثورة ضباطٍ أحرارٍ" (25 يوليو/تموز 1952)، وتداعيات سلبية جمّة لها، بهجرةٍ قسرية لأهلٍ وأقارب، لن تكون أقلّ من انسلاخٍ قاهِر وقاتل، إلى بلد الأصل، وأي أصلٍ هذا، أنْ يُهجِّر أبناءه/بناته، لألف سبب، أو لسبب واحد؟
أيُعقل أنْ يكون التأثّر الأفعل والأعمق والأجمل، وإنْ يبقى غامضاً وغير معروفٍ حينها، منبثقاً من سيرة أهلٍ مع السينما، في إسكندرية ثلاثينيات القرن الـ20، وأربعينياته وخمسينياته؟ أيكون تأثيرٌ، عند استماع شبه دائم لحكايات أهلٍ مع أفلامٍ وصالاتٍ و"نجوم/نجمات"، والحيوية ناشطةٌ، والهناء ـ السابق على خرابٍ ـ مُعمَّم، والتداخل بين العائليّ والعام فاعلٌ في لحظات؟
(***)
هذا يستدعي سرد حكاية عائلية بسيطة، قبل كلامٍ عن التأثّر الأول بفيلمٍ أو بأكثر، والحكاية فاعلة في علاقة شخصية بالسينما، وستكون (الحكاية) أساسية في ارتباط غير واضح بالشاشة الكبيرة، يأتي مع أول جلوسٍ في صالةٍ، مع أفراد كثيرين من الأهل/العائلة، لمشاهدة فيلمٍ يسبق آخر، سيكونان، الفيلمان معاً رغم وقت قليل يمرّ بين مشاهدة كلّ واحد منهما، أول تأثّر بالسينما.
يحدث هذا في 29 مايو/أيار 1955. إنّه يوم عرس المخرج السينمائي المصري يوسف شاهين في "كنيسة القديس يوسف ـ فليمينغ" في الإسكندرية. أحد المدعوين: عمر الشريف. لم يشأ الكاهن فيليبّوس، عمّ الوالدة أم سليم، إتمام مراسم العرس، لخلافٍ كنسيّ مع الممثل، زوج الرائعة فاتن حمامة، إلّا بعد خروجه من الكنيسة. في لحظةٍ مستلّة من اللحاق بزوجها، الذي يعتنق الإسلام للزواج بها، فيكون هذا سبب الخلاف الكنسيّ معه، تستوقفها الوالدة والخالة كاتي أمام باب الكنيسة، من أجل صورة، ستظلّ وقائعها وحكايتها تحفر في المخيّلة الشخصية طويلاً، لكثرة تكرارها، وستبقى الصورة محفوظةً في أرشيفي الخاص.
صورة محفورة وحكاية ضاغطةٌ تنعكسان، لاحقاً، في كيفية مشاهدة الوالدة، تحديداً، أفلاماً مصرية على شاشة التلفزيون، في مدينةٍ (بيروت) تمقتها الوالدة، ولو بصمتٍ قاسٍ، خاصة تلك المُصوَّرة، كلّها أو بعضها، في الإسكندرية، المدينة التي تعشقها: "هذه محطة باب الرمل". "هذا الترامواي يمتدّ من محطة باب الرمل إلى أول شارع العطّارين". "هذا مقهى ايليت في شارع صفية زغلول". "هذه مدرسة دون بوسكو". "هذا شاطئ أبو قير". "هذا شارع العطّارين (الشارع الذي يشهد ولادة أم سليم، ويسكن الأهل فيه سنين مديدة)". "هذا كذا"، و"ذاك كذا".
تعليقات الوالدة ستحول، دائماً، دون فرجةٍ سوية. لكنْ، لا جرأة تحرّض على اعتراضٍ. هذا قبل إدراك معنى تلك اللقطات عند امرأة، تعيش أبهى أيام حياتها في مدينةٍ تشهد ولادتها، فتحتضنها 30 عاماً فقط، من أصل 90. لاحقاً، سأزور الإسكندرية، ولن أتذكّر موعد الزيارة، أبداً. التجوال في شوارع المدينة، والجلوس في مقهى "إيليت"، واتصال هاتفي بالوالدة. المفاجئ لي أنّي غير مكترثٍ بصالات السينما في المدينة التي تشهد حياةً لأمٍّ، قبل أنْ تُنهَب الحياة منها. لكنّ المؤكّد أنّي غير عائدٍ البتّة إلى الإسكندرية، بعد تلك الزيارة، وأنّي سأوطّد علاقتي بالقاهرة، كي أصنع جزءاً من حكايةٍ شخصية لي مع السينما والذاكرة والحياة والمدينة.
لن أروي الحكاية ليوسف شاهين، في أول لقاء بيننا (2 أكتوبر/تشرين الأول 1994)، ولا في أي لقاء لاحق، واللقاءات اللاحقة كثيرة. لن أخبر فاتن حمامة أيضاً، في لقاء وحيد بها (3 فبراير/شباط 2001). لا سبب يحول دون سرد الحكاية لشاهين، لكنّي غير عارفٍ مغزى عدم سردها له. مع فاتن حمامة، السبب واضحٌ: تفرض منعاً تامّاً على أي كلامٍ مُختصّ بعلاقتها مع عمر الشريف.
(***)
أول فيلم؟ أم أنّهما "أول" فيلمين؟
"عودة الابن الضال" (1976) ليوسف شاهين، و"صوت الموسيقى" (1965) لروبرت وايز: أيّهما الأول؟ متى المشاهدة؟ أم أنّ مشاهدة أحدهما مترافقة، كثيراً، مع مشاهدة الثاني؟ أم أنّ التأثّر الأول بالسينما متمثّل بصالةٍ، سأعرف لاحقاً أنّ اسمها "سينما سان شارل"، وأنّ موقعها في المبنى الذي لا يزال غير مرمَّمٍ من أيام الحرب الأهلية اللبنانية (1975 ـ 1990)، أي مبنى فندق "هوليداي إنْ"، الذي سيكون مَعلَماً أساسياً في بدايات تلك الحرب، بما سيُعرف لاحقاً بـ"معركة الفنادق" (أكتوبر/تشرين الأول 1975 ـ مارس/آذار 1976)؟
يصعب التحديد، أو الحسم. ربما لهذا تُعْشَق السينما، فلا شيء فيها ومنها محدّد وثابت ومحسوم. كما الحياة. كما الكتابة. كما العيش. كما الحبّ.
صالة "سينما سان شارل" باقية في ذاكرةٍ معطوبة، فلا الفيلم المُشاهَد فيها معروف، ولا زمنه، بل فقط مدخلها الطويل، والثريا فيه ضخمة وبهيّة، والسجاد أحمر ورائع. لكنْ، ماذا في الصالة؟ كم حجمها؟ كبيرة؟ نعم. لكنْ، كم مقعداً فيها؟ كيف شكل شاشتها وحجمها؟ أسئلة معلّقة وما من إجابات، لا قبل الآن، ولا بعده، رغم معلومات متفرّقة تنكشف لاحقاً، وبعضها يقول إنّ الصالة كبيرة، وإنّ افتتاحها سابقٌ على اندلاع الحرب اللبنانية بوقتٍ قصير. هذا معطوبٌ كلّياً. أيكون "صوت الموسيقى"؟ ربما. أما سؤالي اللاحق بعد أعوامٍ، فإجابة الوالدة عليه مُرتبكة وغامضة. أيكون "الفالس الكبير"؟ هناك شبه استحالة، فالفيلم مُنتج عام 1938، ومخرجه غير معروفٍ لي لا حينها، ولا بعد ذلك بأعوامٍ مديدة: جوليان دوفيفييه (مع فكتور فليمينغ وجوزف فون سْترنبيرغ، من دون ذكر اسميهما في الجينيريك). إعادة عرض فيلمٍ قديمٍ في صالةٍ، تُفتَتح حديثاً، صعبة للغاية، إنْ لم تكن مستحيلة. افتتاح صالة جديدة، قبل أشهرٍ على اندلاع تلك الحرب اللعينة، يحتاج إلى فيلمٍ جديد (أم أنّي أتوهّم هذا، كي أخفّف قليلاً من عبء نسيانٍ غير مقصود؟).
لكنْ، أي فيلمٍ؟ لا. هناك عطبٌ في مسألةٍ كهذه. الأفضل، أنْ أعود إلى فيلمي شاهين ووايز، ولن يكون مهمّاً تحديد الصالة وزمن المشاهدة. إنّهما الأرسخ في الذاكرة، كـ"أول فيلم".
المؤكّد أنّ سطوة يوسف شاهين أقوى، وحضور روبرت وايز ماثلٌ بشيء من قوّة خفيّة وباقية. لشاهين أولوية. حضور زفافه في الإسكندرية، قبل 21 عاماً على "عودة الابن الضال"، سببٌ يدفع الأهل إلى مشاهدة الفيلم في الصالة (أي صالة؟ هذا تستحيل معرفته، رغم أنّ الزمن ماثلٌ في لحظةٍ ما من لحظات "هدوء نسبيّ"، في بداية الحرب الأهلية اللبنانية). ليس العرس فقط، بل العنوان. أميل إلى تفكيرٍ يقول إنّ أهلاً، فيهم شيءٌ من إيمان مسيحي عادي، سيهرعون إلى صالةٍ تعرض فيلماً، لعنوانه وقعٌ دينيّ: "عودة الابن الضال". تلك الحكاية الإنجيلية، التي تحتمل تفسيراتٍ قابلةٍ لأنْ تكون السينما معبرها إلى اختبار حياةٍ وعلاقاتٍ وانفعالاتٍ ومشاغل.
هذا أيضاً غير محسوم. لن أسأل الأهل، فالمشاهدة تترافق وصغر سنّ لي، والطفولة تصطدم بحربٍ أهلية، والزمن قاهِر.
"صوت الموسيقى" يبقى "صوتاً" رائعاً في ذاكرة وانفعال، من دون قدرة على معرفة لحظة المشاهدة، ومكانها. المشاهدة نفسها متكرّرة لاحقاً، وبعضها معقودٌ على شاشة صغيرة في منزل أهل وعائلة. الأغاني، الألوان، الطبيعة، القصر (أم أنّه مجرّد فيلّا كبيرة؟). لا تقنيات تحفظ مشاعر آنيّة، ولاحقة، أو تمنع عطباً إزاء أشياء مُفرحة، والإحساس بفرحٍ سيكون ناجياً، وحيداً ربما، من عطب الذاكرة.
المشترك بين الفيلمين، وهذا مؤكّد، كامنٌ في مشاهدةٍ تحصل في وقتٍ يتراوح بين عشية اندلاع تلك الحرب، وبداياتها الأولى. أي تلك الفترة التي تشهد تبدّلات مرفقةٍ بقهر وانكسار وخيبة، ستنكشف لاحقاً مع تفتّح وعي، ووفرة معرفة: انسلاخٌ من "مدرسة المخلّص" (موقعها سيكون قائماً في الخطّ الفاصل بين البيروتين، زمن تلك الحرب الأهلية)، مع ما يعنيه الانسلاخ من افتراق مفروضٍ عن أصدقاء، أسماؤهم محفوظة في الذاكرة إلى الآن (ناجي، سامي، نقولا، أنطوان)، وهذا رائعٌ؛ ثم سَفر الشقيق الأكبر، الذي يترك في خزانته بطاقات دخول إلى صالات بيروتية كثيرة، مكتوبٌ عليها معلومات عن كلّ فيلمٍ يُشاهده فيها. بعد هذا، تمزّقات تحصل تدريجياً، وآثارها تظهر لاحقاً.
(***)
هذا كلّه ليس تفصيلاً عابراً. إنّه جزءٌ من ذاكرة، ومن علاقة بالسينما، ومن حكايةٍ لي مع أهلٍ وبيروت، ومع صحافة وأفلامٍ وذاكرة، ومع ثقل تاريخ عائليّ، ومدينةٍ (الإسكندرية) مسلوخة، وأخرى (بيروت) مفروضة على أمٍّ وسيرةٍ، ومرفوضة منهما.
هذا مترافقٌ وسلوكٍ، يعتمده الوالد في فترةٍ ستكون مقتضبة، لأنّ الحرب الأهلية تندلع سريعاً، حينها. سيفرض الوالد، وإنْ بأسلوبٍ هادئ وبسيط ولطيف ومتواضع (أو ربما هذا وهمٌ لي، حينها والآن)، شرطاً لمشاهدة أفلامٍ، لن أقدر على اختيارها، لصِغَر سنّ. يقول: "نذهب إلى السينما في حفلة العاشرة والنصف صباح كلّ أحدٍ، شرط أن نذهب أولاً إلى الكنيسة، في قدّاس الثامنة صباح اليوم نفسه". هذا شرطٌ، سيكون مقبولاً لي، وأنا غير مُدركٍ معنى السينما ورفاهيتها وجمالياتها، حينها. لكنْ، حينها أيضاً، أُدركُ معنى المساومة، ومعنى بعض التنازل، من أجل الأفضل.
لكنْ، أي أفلام سأشاهدها بعد قدّاس الثامنة صباحاً؟ اللعنة، إنّها الذاكرة، بل انعدامها، بل تفتّت أشياء منها، وهذا قاسٍ ومجحف. مع الوالد، أشاهد أفلاماً في صالةٍ، أكتشف لاحقاً أنّها "سينما أورلي" في "بلس"، مقابل "الجامعة الأميركية في بيروت"، لأنّ صديقاً له يشتغل هناك، فندخل مجّاناً، والصديق ينتقل، بعد اندلاع الحرب، إلى صالة "سينما الحكمة"، أو "لا ساجيس"، بحسب المفهوم الفرنكوفوني لمنطقة الأشرفية، قلعة اليمين اللبناني في مواجهة جيش الاحتلال الأسدي السوري، خاصة في حرب المئة يوم (1 يوليو/تموز ـ 7 أكتوبر/تشرين الأول 1978). فيها، كما في "أورلي"، نشاهد، الوالد وأنا، أفلاماً عدّة، لن أتذكّر منها شيئاً، وهذا أيضاً ليس تفصيلاً عابراً. لكنّ صورة واحدة ماثلةٌ فيّ إلى الآن، في فيلمٍ يمثّل فيه بروس لي (لا عنوان الفيلم حاضرٌ، ولا تفاصيله وحكايته ومساراته ومشاهده): جثةٌ في قالبٍ كبير من الثلج.
أيكون لثبات هذه الصورة، إلى الآن، مغزى؟ أم أنّ مثولها عاديّ؟
(***)
أول فيلم؟ لكنْ أيضاً أول مقالة، يُفترض بها أنْ تكون نقداً سينمائياً، لا كتابة إنشائية انفعالية، نابعة بصدق وحبّ كبيرين من مشاهدة "حروب صغيرة" (1982) لمارون بغدادي. يحدث هذا في لحظةٍ سابقةٍ على "الاجتياح الإسرائيلي للبنان"، المُسمّى إسرائيلياً بـ"عملية السلام للجليل"، بدءاً من 6 يونيو/حزيران 1982. يُعرض الفيلم في صالةٍ سينمائية في منطقة الأشرفية نفسها. الحماسةُ للفيلم، ولما فيه من صُور وحكاياتٍ، مستلّة من تلك الحرب الأهلية، ومن سماع لهجةٍ/لهجات لبنانية مثلاً، تُحرِّض على كتابة مقالة، لن تكون أبداً نقدية، وإنْ تبدو هكذا حينها. تُنشر المقالة في "صوت الأحرار" (3 مارس/آذار 1983)، صحيفة "حزب الوطنيين الأحرار"، اليميني المسيحي، الذي يتعرّض جناحه العسكري (نمور الأحرار) لتصفية عنيفة مروّعة، ضمن خطة بشير الجميل في توحيد "البندقية المسيحية اليمينية"، المتوّجة بـ"مجزرة الصفرا" (7 يوليو/تموز 1980). هذا دافعٌ لي إلى الكتابة فيها، كنوعٍ لا واعٍ، بالتأكيد، من ثأرٍ للحزب ضد قاتليه، و"الثأر" يصنعه شابٌّ، ثقافته ومعرفته تتشكّلان بهدوء وبطء، حينها.
أعثر على المقالة بعد سنين، وأضحك كثيراً على "كاتبها"، بل أسخر كثيراً منه ومنها، لفقدانها كلّ ما له علاقة بالنقد، وبالكتابة أساساً، لشدّة الانبهار بالفيلم والسينما والصالة، ولقوّة الرغبة في الكتابة والنشر.
أيكون "حروب صغيرة" أول فيلم لبناني مؤثّر فيّ؟ هذا مؤكّد. لن ألتقي بغدادي أبداً، الذي يتوفّى في 10 ديسمبر/كانون الأول 1993. هذا قاهِرٌ لي، خاصة بعد إدراكي سيرته وتنقّلاته والتزاماته وانقلاباته، وبعد تأكّدي من أمرٍ واحدٍ ثابتٍ وأكيد: عشقه الكبير والعميق للسينما، وقدرته على تطوير اشتغالاته، لاحقاً، باتّجاه السينما، أكثر من النضال والإيديولوجيا والفكر.
أما "عودة الابن الضال" و"صوت الموسيقى"، فمنزّهان عن كلّ "نقدٍ"، بالنسبة إليّ، لفترة طويلة، لعلّها غير منتهيةٍ بعد. إنّهما "أول فيلم"، بكل ما يمتلكه هذا التعبير (أول فيلم) من تراكمات وذكريات وارتباكات وأحوال. لذا، هذا وحده كافٍ.